كندي الزهيري
لا توجدُ بينَ أيدينَا إحصائيّةٌ واضحةٌ حولَ النّسبةِ والتّناسبِ بينَ القوانينِ الوضعيّةِ والتّشريعِ الإسلاميّ، وحتّى إنْ وجِدَتْ لا تكونُ مُجديةً للمقارنةِ بينَ القوانينِ الوضعيّةِ والتّشريعِ الإسلاميّ؛ لكونِ المُقارنةِ بينَ القوانينِ لا تقعُ على مستوى التّفصيلاتِ الإجرائيّةِ وإنّمَا تتمُّ عبرَ دراسةِ الغاياتِ والأهدافِ الّتي تسعَى لتحقيقِها القوانينُ، مُضافاً إلى أنَّ القوانينَ التّفصيليّةَ فِي حالةٍ مِنَ التّغيّرِ والتّوسُّعِ المُستمرِّ بحسبِ حاجةِ الإنسانِ والمُجتمعِ.
وعليهِ فإنَّ فلسفةَ القانونِ هيَ المسؤولةُ عَن مثلِ هذهِ المُقارناتِ؛ وذلكَ لأنَّ فلسفةَ القانونِ هيَ المسؤولةُ عَن دراسةِ المبادئِ الأساسيّةِ التي يرتكزُ عليهَا القانونُ، ومصدرِ شرعيّتها والضّوابطِ التي تحكمُ صحّتهَا، ومعرفةِ العلاقةِ بينهَا وبينَ القيمِ الأخلاقيّةِ وغيرِ ذلكَ مِنَ البحوثِ المُفصّلةِ فِي فلسفةِ القانونِ، وعليهِ فإنَّ المُقارنةَ بينَهما تتمُّ على مُستوى المبادئِ الدّستوريّةِ التي تُمثّلُ القيمَ والأهدافَ التي يسعَى المُشرّعُ للوصولِ إليهَا مِن خلالِ سنِّ القوانينِ التّفصيليّةِ.
والعلاقةُ بينَ الدّستورِ والقانونِ هيَ علاقةُ القاعدةِ بالفرعِ حيثُ يُمثّلُ الدّستورُ القواعدَ العامّةَ فِي حينِ تُمثّلُ القوانينُ التّفريعاتِ التي ترتكزُ على تلكَ المبادئِ الكليّةِ، فمثلاً (الحفاظُ على الأمنِ) كمبدأٍ دستوريٍّ يُمثّلُ قاعدةً كُليّةً لمجموعةٍ منَ القوانينِ التّفصيليّةِ، مثلَ قانونِ الجناياتِ وقوانينِ تنظيمِ حركةِ المُرورِ وغيرِ ذلكَ مِنَ القوانينِ التي تسعَى لتحقيقِ قيمةِ الأمنِ بوصفِهَا مبدأً دستوريّا.
ومنَ المعلومِ أنَّ هذهِ التّفصيلاتِ قَد تختلفُ مِن وقتٍ إلى آخرَ ومِن مكانٍ إلى مكانٍ آخرَ، وعليهِ مَا يجبُ دراستُه والوقوفُ عندهُ هوَ المبادئُ العامّةُ للقوانينِ وليسَ التّفصيلاتِ الإجرائيّةَ، ومِن هُنا نجدُ أنَّ أهمَّ مَا تهتمُّ بهِ الدّولُ هوَ الدّستورُ الذي يُمثّلُ الإطارَ المرجعيَّ للقوانينِ.
وإذا قُمنا بإجراءِ مُقارنةٍ بينَ القيمِ الكُليّةِ فِي الإسلامِ التي تُمثّلُ كليّاتِ التّشريعِ، وبينَ المبادئِ القانونيّةِ التي تتضمّنُها الدّساتيرُ الوضعيّةُ لوجدنا الكثيرَ مِنَ القواسمِ المُشتركةِ، وذلكَ لأنَّ روحَ القوانينِ تسعى لتحقيقِ قيمٍ فطريّةٍ تُمثّلُ مُشتركاً إنسانيّاً، فمثلاً قيمةُ الكرامةِ والحريّةِ والعدالةِ وغيرِها مِنَ القيمِ الكُبرى تمثّلُ موادَ أساسيّةً فِي مُعظَمِ الدّساتيرِ الوضعيّةِ، والإسلامُ كدينٍ سماويٍّ اِعتمدَ بشكلٍ أساسيٍّ على هذهِ القيمِ الفطريّةِ ولذا عملَ على تذكيرِ الإنسانِ بِها وتنبيههِ على أهميّتِها، فجاءَت معظمُ آياتِ الذّكرِ الحكيمِ بتذكيرِ الإنسانِ وحثّهِ على التّمسّكِ بهَا والعملِ على تطبيقِها.
إلّا أنَّ المُفارقةَ هيَ أنَّ المُجتمعاتِ الإسلاميّةَ إبتعدَتْ كثيراً عَن هذهِ المبادئِ فِي واقعِها السّياسيّ والاجتماعيّ، فكانتِ النّتيجةُ الطّبيعيّةُ هيَ مَا عليهِ حالُ البلادِ الإسلاميّةِ، وبالتّالِي مهمّةُ الدّينِ هيَ تأسيسُ نظامِ المبادئ العامّةِ للتّشريعاتِ ومهمّةُ المُسلمِ هيَ الإرتكازُ عليهَا لسنِّ القوانينِ والتّشريعاتِ التي تُناسبُ حركتَه الحضاريّةَ، ومِن هُنا يُمكنُنا القولُ أنَّ المبادئَ القانونيّةَ فِي الإسلامِ أكثرُ شمولاً واتّساقاً معَ القيمِ الفطريّةِ مِمَّا عليهِ حالُ الدّساتيرِ الوضعيّةِ.
وما يُثيرُ الدّهشةَ أنَّ التّشريعَ الإسلاميَّ سبقَ التّطوّرَ الإنسانيَّ بمراحلَ عندمَا ضمِنَ هذهِ المبادئَ فِي آياتهِ قبلَ أربعةَ عشرَ قرناً مِنَ الزّمنِ، فمثلاً المُساواةُ كمبدأٍ قانونيٍّ ذكّرَتْ بهِ النّصوصُ الإسلاميّةُ منذُ نزولِ القُرآنِ، قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجراتُ: من الآية13].
فِي حينِ أنَّ الدّساتيرَ الوضعيّةَ لَم تجعلِ المُساواةَ مبدأً قانونيّاً إلّا فِي أواخرِ القرنِ الثّامنِ عشرَ وأوائلِ القرنِ التّاسعَ عشرَ، وهكذا الحالُ فِي العدالةِ والكرامةِ والحريّةِ وغيرِها مِنَ القيمِ الكُبرى، ورجوعِ القوانينِ الوضعيّةِ ومُراعاتِها لهذهِ القيمِ أمرٌ ممدوحٌ، معَ أنّهَا فِي أرقى صورِها لا ترتقِي إلى مستوى الضّبطِ التّشريعيّ فِي الإسلامِ الذي راعى التّداخلَ بينَ هذهِ القيمِ.
ومعَ أنَّ الإسلامَ يُمثّلُ أساساً متيناً لهذهِ المبادئِ إلّا أنَّ المُسلمينَ لم يرتقُوا إلى مُستوى هذهِ القيمِ الكُبرى، ففرّطُوا بِهَا فانقلبَ حالُهم وتعاظمَ تخلّفُهم حتّى وقعَت بينَهمُ المظالمُ وانتكسَتْ حضارتُهم إلى درجةِ أنّهُم أصبحُوا يتطلّعونَ للدّساتيرِ والقوانينِ الغربيّةِ.
..
https://telegram.me/buratha