طالب الأحمد
في صباح يوم غائم غادرت منزلي متوجها إلى الشارع العام بحثا عن سيارة أجرة..قبل ان اعبر للجهة الاخرى من الشارع مرقت امامي سيارة ذات موديل قديم ثم سرعان ما عادت وتوقفت..اومأ لي سائقها بيده عارضا خدمة سيارته.. حين اقتربت منه وجدته رجل بشوش ذو لحية رمادية يبدو في منتصف العمر أو أكثر بقليل..سيارته صفراء قديمة وتبدو متهالكة..سألته عن مقدار الأجرة فرفض تحديدها..مد يده لفتح الباب ..رحب بي وقال : لا يهم مقدار الأجرة؛ توكل على الله.
في الطريق تجاذبنا أطراف الحديث عن أوضاع البلد فاعتبر أن مايجري هو نتيجة الازدواجية والنفاق السياسي وعدم تطبيق تعاليم أهل البيت عليهم السلام..قال أن الساسة يتحدثون بإسم الدين لكنهم بعيدون عنه..عمي ما هي السياسة؟ إنها خدمة الناس، الدين يحث على ذلك.
ثم تحدث لي عن عشقه الإلهي لأهل البيت وكيف أنه يشعر بالسعادة والطمأنينة ويرفل بنعيم الرضا لأنه يلوذ بهم.
قال متحسرا: ليت الناس كلها تعلم ماذا يعني الولاء لاهل البيت وماذا يعني قول نحن حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم ، حتى تستقيم حياتنا لابد أن نكون كذلك حقا.
كان يتحدث بعفوية وصدق وحماس فيما كان صوت مذياع السيارة يبث في تلك اللحظة زيارة الإمام الحسين عليه السلام بصوت شجي.
وبينما هو يستمع لكلمات الزيارة راح يحدثني عن حرصه على زيارات للمراقد التي يصفها بالنورانية ثم اخبرني عن أمنيته الغالية بزيارة العلوية مريم بنت الإمام الصادق عليه السلام، وحسرته لأنه لا يستطيع تحقيق هذه الأمنية الغالية.
قال لي انه لا يعرف مكانها ولكنه منذ أيام يرى في منامه ويسمع في داخله نداءا خفيا يدعوه لزيارتها ويلح عليه بالتوجه للمرقد، ولكن كيف؟ ..
أردف متحسرا: ليتني احقق امنيتي هذه.
الحقيقة انا اعجبت كثيرا بعمق إيمان هذا الرجل البسيط وقوة ولاءه لأهل البيت ..قلت له ان المرقد يقع في المنطقة الخضراء..رد بالقول انه لا يعرف اين بالضبط ولا يستطيع أصلا دخول الخضراء سيما بعد منع سيارات الاجرة من المرور في مداخلها.
فكرت أن اؤدي خدمة لهذا الرجل الطيب. قلت له عندي هوية صحفية قد تسمح لنا بالوصول للمرقد..دعنا نتوجه الى الخضراء ونرى.
لم يصدق كلامي وكاد ان يطير من الفرح..
قال: معقولة أستاذ اليوم ازور العلوية مريم!..
تألقت عيونه النرجسية برذاذ الدموع؛ وأخذ يردد عبارات الشكر لله تعالى ويقول : كم انا سعيد..كم انا محظوظ هذا اليوم؛ أردت أن أعود للبيت لعدم وجود ركاب في الطريق والآن أصادفك لتأخذني لزيارة العلوية!؛ يالها من فرحة كبيرة..ما أسعدني اليوم ؛ سأزور شقيقة الإمام الكاظم ؛ لك الشكر ياربي على هذه النعمة العظيمة.
ثم مد يده إلى جيبه واخرج مسبحة سوداء قدمها لي قائلا: اتمنى ان اقدم لك أغلى هدية ولكني الآن لا أملك سوى هذه المسبحة ارجوك تقبلها مني .
لم اتردد في قبول هديته لأني أردت أن احتفظ بذكرى من انسان من أهل السماء لكنه يعيش بيننا في الأرض..شعرت صدقا انها اغلى هدية قدمت لي في حياتي.
أعطيته مسبحتي لتبقى أيضا ذكرى عنده..
حين وصلنا عند سيطرة مدخل الخضراء تملكني القلق خشية ان تمنعنا السيطرة من المرور ..ترجلت من السيارة وابرزت للضابط هويتي الصحفية واخبرته برغبتنا في زيارة مرقد العلوية مريم..لحسن الحظ تفهم الضابط الأمر وسمح لنا بالعبور..التفت للسائق وقلت له : هذه من بركات دعواتك ؛ بقيت سيطرة أخرى قرب المرقد اذا منعوا السيارة من العبور نذهب إلى العلوية مشيا.
الحمد لله لم يمانع ضابط السيطرة الأخرى وتفهم رغبتنا بالزيارة رغم علمنا بمنع دخول سيارات الأجرة في أي طريق خاص.
ما أن وصل السائق مرقد العلوية حتى فاضت عيناه بالدموع واجهشت انا بالبكاء ..عجبت لهذا الانسان الملائكي كيف أهتز كيانه كله عند دخول المرقد الشريف..كأنه التقى وجها لوجه مع العلوية وابيها الصادق واخيها الكاظم..تحدث معها بكل صدق وإخلاص وصلى أجمل ركعتين لله تعالى..صليت معه وشعرت ان كل شئ حولي يهتف بحب أهل البيت..وان الوجود كله يحلو ويسمو بهم ومعهم.
احيانا نصاب بالعجب لعبادتنا لله تعالى وحبنا لأهل بيت النبوة لكن هذا الإنسان المؤمن البسيط في مظهره والعميق في إيمانه يعطينا الدرس في معنى حب أهل البيت عليهم السلام وما تنطوي عليه رمزية زيارتهم من دلالات عظيمة تثري حياتنا الدنيوية بالسماح والسلام وقيم السماء وبكل ما يعنيه استخلاف الإنسان في الأرض.
انه يتقرب لله تعالى بعبادة لا تنفصل عن السلوك والعمل..لا يرفع شعارا سياسيا في حب أهل البيت لكنه يجسد الحب عمليا ، فهو كما أخبرني يرفض تحديد الأجرة مسبقا ويترك للراكب حرية تحديد مقدارها مكتفيا بالتوكل على الله تعالى..يشكر الله في الأحوال كلها..ويتجسد حبه وولاءه لأهل البيت في علاقاته مع الأخرين ؛ في خدمة الناس والسعي لمساعدتهم ما أمكنه ذلك..وحتى في تعاطيه مع احداث السياسة وتحولاتها؛ بل وفي كل تفاصيل حياته اليومية.
لقد كان طقس ذلك اليوم غائما لكن إشراقات العلوية مريم وانوار أهل البيت ملئت قلبي وغمرت كياني كله بنشيج الرجاء.
في هذه الزيارات يتجلى عالم الملكوت لقلب الإنسان المؤمن ويزداد يقينا بوجود عالم آخر يخلد فيه الأنبياء والشهداء والأتقياء ويردون السلام على محبيهم ومريديهم التواقين للسير على هديهم في الأحوال كلها.
حين غادرت المرقد الشريف في ذاك الصباح الغائم، قلت في سري: العلوية مريم في قلب المنطقة الخضراء ولكن ما أبعد الساسة عنها!.
https://telegram.me/buratha