محمّد صادق الهاشمي
بعد أنْ أمضيتُ سنتين وشهرين تحت سياط التّحقيق في دائرة الأمن العامّة في بغداد من آخر اعتقالٍ لي ، وفي يوم من أيّام شهر تموز ، اللّاهب الحارق ، وفي بعض أحيانه قد تصل درجات الحرارة فيه إلى «50» درجة مئوية ، نادى الجّلادون بأسماءٍ البعض منّا ، وانا من ضمنهم ، وأمرونا بصعود سيارة قد كُتب عليها كما قيل : «مرطبات الخليج» ، وفي داخلها زنزانات حديدية صغيرة جدّاً جدّا ، تُملأ إلى نهايتها ، وفيها ثقب صغير جدّاً يكفي لتنفس بعوضةٍ.
رغم صغر سنّي ، ونحافة جسمي ، وهزالي من الجوع والتّعذيب ، كنت حينها صائماً وفرحا لاني أجد الخلاص بالموت افضل مما انا فيه.
حينما دخلت هذه الزّنزانة شعرت أنّي أحتضر ، وضاق بي خناقها، دعوت الله أنْ يهوّن عليّ سكراتِ ضيقها ، لقد ضاقت حتّى ضغطت على قلبي حدّاً كادت أنفاسي تتقطّع ، شعرت أنّ ثمّة كابوساً وإغماءً ودواراً ، ثمّ «تقيّئتُ» ، فكنت - وأنا في غمرة النّزع هذه - أكرر دعاءً قد حفظته من اخوتي السّجناء : « يا مَنْ تحلّ به عُقد المكاره... ويا مَنْ يُلتمس منه المخرج إلى روح الفرج ، ذلّت لقدرتك الصّعابُ، وتسببت بلطفك الأسبابُ ... أنت المدعوّ للمهمّات، وأنت المفزع في الملمّات، لا يندفعُ منها إلّا ما دفعتَ، ولا ينكشفُ منها إلّا ما كشفتَ، وقد نزل بي يا ربّ ما قد تكّأدني ثقلُه ، وألمّ بي ما قد بهظني حمله ...».
وكانت سيّارة الموت هذه كلّما استدارت في جهة تعاود أنفاسي الانقطاع ، وأعود للاستفراغ من معدةٍ فارغةٍ، وبعد التي واللّتيا توقفت رحلتنا ، وعرفنا أنّنا نساق إلى محكمةِ الأمن العامّة في أبي غريب ، ويراد هنا أنْ تَصْدرَ أحكامٌ بحقّنا .
هذه المحكمة – والأصحّ أنْ يقال عنها: «مهزلة»- وفي ظلّ حكومة الطّاغية المجرم صدام كانت مخيفةً جدّاً ؛ لأنّها لا تعني إلّا مفردةً واحدةً يكررها يوميا مسلم الجبوري : «حكمتْ محكمةُ أمن الثّورة على المجرم (فلان) بالإعدام شنقاً حتّى الموت» ، ولو تلطّف القاضي علينا وصار قانونيّاً: فيكون الحكم : «حكمتْ محكمةُ أمن الثّورة على المجرم (فلان) بالحبس المؤبّد».
ولا يوجد نفر واحد قد مَثُلَ أمام حاكم هذه المحكمة: «مسلم الجبوريّ» فأُطلق سراحه لعدم توفّر الأدلّة (مثلا) ، أو لأنّ الاعترفات قد أُنتزعت منه بالقسر وتحت السّياط ، مع أنّه يرى بأمّ عينيه أنّ الماثلين أمامه كلّهم جرحى ومعصوبو العيون ، تعلو قسماتهم الخوف والرّعب ، وآثار التّنكيل بادية عليهم واضحة المعالم فيهم.
«رعد»: -المدّعي العامّ – طالب المحكمة الموقّرة هذه بإنزال أشدّ العقوبات فينا جميعاً ، وفق المادّة (156) ، فحكم القاضي «مسلم الجبوريّ» على الكُلّ بالإعدام ، إلّا إياي ، لصغر سنّي فصنّفوني ضمن «الأحداث» ، فحكموا عليّ بـ «الحبس المؤبّد» ، ثمّ عدنا بعجالة لسيّارة الموت، وأنزلزني في سجن أبي غريب ، وكان الجلادون يسخرون منّي حينما نادوا السّائق : «عندك واحد نازل» ، وأرسلوا رفاقي إلى قسم الإعدام ونُفّذ فيهم بعد حين.
من يراجع أحكام صدام يجد أنّ في غالبها الحكم بالإعدم على كلّ الشّرفاء من الشّعب العراقيّ ، وحتى في السجن فهو موت بطئ، فقد بدأت معي رحلةٌ جديدةٌ في سجن أبي غريب ، دورة حياة، وعذابات وومصطلحات جديدة : «الأقسام ، السّجن ، السّجن المغلق ، القزان ، الموت البطئ ، التّنكيل ، المجهول ، الجوع الشّديد لحدّ تصبح لقمة الخبز أمنيةً بطرٍ يتمناها السجين ، والعطش هو الحالة الغالبة ، والحرّ القاتل ، والبرد في أيّأم الشّتاء ، والسّل الرّئوي قد تفشّى فينا ، من كثرة أعدادنا وضيق التّنفس وتلوث المكان ، فالهواء هنا بالمثاقيل .
وتكررت على مسامعنا الأسماء المجرمة : «فلاح عاكولة»، ونقيب «غالب» ، مسؤول قاطع الأعدام.
لقد عرفت مصير الكثير من أخوتي وأنا أتنقل في زنزانات السّجون ، وعرفت من الذي أُعدم منهم ، ولكنّي أجدُ من الحقّ والوفاء لأختٍ لنا فاضلة اسمها « ع » ، ترافعت معنا في هذه المحكمة، وأعدمت (رحمها الله) ، ولم يسلّموا جثمانها لأهلها ، كانت تتحيّنُ الفرص - حينما كنّا في معتقل مديرية الأمن العامّة - لترفع الغطاء الذي شدّه الجلّادون على عيونها : لتقول لي : إنّ ابني فلان أخذوه منّي ، هل عندكم منه خبرٌ ، هل سمعتم عنه شيئاً ، هل قتلوه؟ أم رموه إلى الكلاب؟ أم أرجعوه إلى أهلي ؟ .
الله أكبر إنّها لا تفكّر بمصيرها وما ستؤول هي إليه، وهي في هذه الحال، بل تفكّر بولدها ، ما أعظمكنّ أيّتها الأمهات ، وما أعظمك يا أخت الجلالة والقدر والرّفعة والعزّة والكرامة ، أنتِ من تمثّلين نساء العراق ، لا السّاقطات اللاتي رقصنّ لصدام .
11 / شهر رمضان المبارك 1441
ـــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha