محمّد صادق الهاشميّ ||
يا يحيى خُذْ النّبأ بقوّةِ إيمانٍ وصبر جميل :
إنّ المعتقلات التي عشناها كانت مصممةً بعنايةٍ أمنيةٍ فائقةٍ ، تجعل الإنسان يعاني من ضغوط نفسية حادّة وخوف وقلق قبل أنْ يعرض عليه جريمته التي سيق بموجبها إلى المعتقل، فالزّنزانات تخلو من كلّ وسيلةٍ صحّيةٍ، بينما تجد غرف التّحقيق مزوّدةً بأحدث وأرقى ما وصلت إليه آلات التّعذيب، فعراق البعث قد أدخل هذه التّكنولوجيا مبكراً .
والموت في تصوّرات البشر كلّهم شيءٌ مهيب ، وقد عبّر عنه الكتاب الكريم بـ «المصيبة» ، فقال تعالى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] ، غير أنّها هنا كلمة تقال وتفعل معنا في معتقلات المجرم «صدام حسين» بكلّ سهولة ، وبكلّ استهتار في كرامة الإنسان العراقيّ ، فالمعتقلُ إنسانٌ يعبّر عن كائن يراد له أنْ يدلو باعترافات عن إخوانه فيعدومونهم هم وإيّاه ، فينتزعون منّا الإعترافات بأساليب تفوق التصوّر – فضلا عن أنْ تكون واقعا - .
وحينما يدخل المتّهمون المعارضون السّياسيون المعتقلات يصبحون في عالم آخر تماماً ، فأخبارُهم لا يعلم بها إلّا الله والجّلادون ، لا يحقّ لأهلهم وذويهم أنْ يسألوا عنهم ، ومَن يجرأ على ذلك يلقَ نصيبه مثلما لقوا .
لقد مارس النظام مع المعتقلين أساليب تعذيبٍ وحشية ، تصل إلى أكثر من «50» نوعاً معروفا عندنا ، أذكر منها شيئا خشية الإطالة : ماكنات فرم أجساد المعتقلين وهم أحياء ، أو فرمهم بعد موتهم تحت سياط الجلّادين ، ثمّ رمي لحومِهم المفرومةِ لأسماكٍ أعدّتْ لهذا الغرض. ومن بين أساليب التعذيب استعمال الكاويات الكهربائية ، والصّوندات المطاطية ، وخراطيم المياه ، والكيّ أو الحرق بالسّجائر في مناطق العورة الحسّاسة ، أو أدخال الخازوق والقناني في مؤخّرة الضّحية ، أو نفخ بطن المعتقل إلى حدّ الانفجار. وسردُ طرقِ التعذيب يطول المقام بها ، ومَن أراد المزيد فليشاهد جرائم الدّواعش ، فإنّ القوم أبناء القوم ، وربّما أخصص لها حلقةً مستقلّةً إنْ وفّقني الله لذلك ، غير أنّي اليوم أكتفي بهاذا منها . ولكنّي في هذه الحلقة أريد أنْ أقفَ وقفةَ إجلالٍ وإكبار وإعظام أمام شخصية أخي ورفيق دربي ومن عاش معي ردحاً في المعتقل ، ومات تحت سياطهم موتاً ، إنّه الشّهيد «كاظم» من أبناء «العمارة – الكحلاء» ،
إنّ ذاكرتي لايمكنها استعادة كلّ شريط الموت ، ومدن الخراب ، وخصوصا بعد أنْ مرّت علينا هذه السّنون المتطاولة من خروجنا من السّجن تقدّر بخمسة وعشرين سنة ، وسعة المشاهد التي مرّت بنا ، وكثرة الشّهداء ، وأعداد الطّوابير التي ينتظرها الموت ، إلّا أنّ هنا مشهداً لبشاعته حُفر في ذاكرتي فلا أكاد أنساه ، إنّه منظر الشّهيد كاظم ، وهو يتلوّى تحت سياطهم ، فقد ضربوه على رجليه التي أصيبت بمرض «الكونكرينا» ، بل على كلّ جسده حتّى وهو ينازع الموت ، صارخا فيهم بلهجته العراقية العمارية : «ولكم كافي أريد أموت ، فكّوا رجلي ، ما عدكم ذرّة رحمة» ، فيجتمعون عيه ويزيدونه ضرباً .
وأنا لطول مكثي عرفت أسماء الجلّادين الذين اجتمعوا عليه : «ناطق ، طارق ، حمزة ، حازم ، عدنان» ينادون عليه وهو في حالة ٍ نزع الموت ، وبكلّ أعصاب باردة : «ولك كويظم تخاف تموت... عميل ... خميني ... أخو الكذا ... أختك كذا...» ، ويرددون كلمة : «نخلي الكلاب تاكلكم» ، وبقوا على هذا الحال حتّى سكتت أنفاسه ، فتنادوا : مات كويظم ،فسحلوه من ملابسه إلى آخر الممررات ، وهكذا قضى شهيدا راحلاً إلى ربّ يأخذ بحقّه ،{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40].
هذا الشّهيد كان قد قال لي حينما تعارفنا أننا أبناء العمارة : «إنْ قَسَمَ اللهُ لكَ أنْ تخرج فأرجوك أن توصل خبري لأهلي ، أنا أخوي فلان وفلان عرفت منهم شقيقَهُ الأستاذ «يحي» الذي كان يدرّسني مادّة اللّغة العربية في متوسطة ناحية السّلام .
وشاءت الأقدار وأطلق سراحي بعد حرب الخليج عام 1991 ، فالتقيت في يوم من الأيام بأخيه الأستاذ «يحي» ، في قارعة الطريق ، فقلت له بعد أنْ عرّفته نفسي ، ويبدو أنّ الرّجل بعد هذا العمر ما عاد يتذكّر طلابه ، وكان نظام البعث لا زال قائماً ،وكان يحذر من صديق له كان يقف إلى جنبه .
قلت له : عندي إليك وصيّة مختصرة ربّما لا نلتقي بعدها .
جذبني بقوّة وأخذني جانباً بعيدا من مسمع صديقه .
قال ما الخبر ، وأيّ وصية تتكلّم أنت عنها ؟
قلت له : أنت الأستاذ «يحي» ، وأخوك «كاظم».
تلثم وتردد ، وقال : أي نعم ، ماذا تريد منه؟ ، أتعرفه ؟ أتعرف عنه شيئاً ؟ ما خبره؟ أين التقيته؟.
قلت : كان معتقلاً معي ؟
سألني : أُطلق سراحك ؟
قلت : نعم .
قال : وأين كاظم ؟ ولِمَ لم يطلق سراحه معكم ؟ انطلق يسالُ بإلحاحٍ عاجلٍ ودمعٍ مَطّار عن أخيه وشقيقه الذي فارقه عمراً ، وتجمّد الرّجل في مكانه حين أخبرته بشهادة أخيه.
أشعر أنّ أستاذي «يحي» قد اهتزّ كلّ جسده ، بكي بصمتٍ بدمع منهمرٍ كأنّه شطّ العمارة ، والخوف يلاحقه من أن يراه أحدٌ ، لقد رأيته كالمذبوح . ودّعني وانصرف إلى صديقه وقد تمالك نفسه ،، وفارقني وتابعته بنظراتي ، وأنا أنظر أستاذي هذا وهو يتلوّى مهيض الجناح ، كاتماً ألمه ، وكأني بلسان حاله يقول: «الآن انكسر ظهري» .
استغرب صديقه حينما عاد الأستاذ «يحي» إليه بدموع حبيسة ، ممنوعة الظّهور في زمن البعث ، أخذ صديقه ينظر إلي كثيراً ، فلذتُ في صفوف النّاس في سوق العمارة الكبير خوفاً من أنْ يكون الرّجلُ مخبراً.
آه ... آه... آه... يا عراق ، فالصّرخة تنطلق من أديم أرضك يا وطني ، ومن بين ذرات ترابك معجونة بدماء أبنائك الشّرفاء الذين ضحّوا لأجلك ، كبارا وصغارا ، بل أعطيناك يا وطني حتّى الرّضّع .
فيا أيّتها الأرواح التي زهقت لتذهب إلى ربّ كريم ، زهقت بحبال لُفّت على الرّقاب آملة أنْ تستنشقّ عطاء الله فهو العوض الحقيقي ، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.
نسخة منه إلى الخضراء .
13/رمضان/1441
الخميس 7 / 5 / 2020 م
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha