المقالات

(الحِراكُ التّشرينيّ) بينَ الحقيقةِ والوهمِ

1414 2021-01-11

 

أ.د.عليّ الدّلفيّ ||

 

مثلما أنَّ للحقيقةِ حرّاسها؛ فإنَّ للأوهامِ حرّاسًا كثيرينَ. تبدو لحظةُ تشرين؛ أوْ الاحتجاجاتُ؛ أوْ (الحِراكُ الشّعبيّ)؛ أوْ غيرها مِنَ المُسمّياتِ إحدى اللّحظاتِ الفارقةِ في عراقِ ما بعد التّغييرِ. لحظةٌ غادرَ فيها المُجتمعُ تماسكَهُ وارتكازاتَهُ علىٰ مجموعةٍ من القيمِ والتّقاليدِ والمفاهيمِ؛ لتنفتحَ الأبوابُ أمامَ تداعياتٍ كادتْ تعصفُ بالمُجتمعِ وتهشّمُ أساساتهِ؛ (وَقَدْ تعصفُ بِهِ قريبًا)!

في البدءِ لا بُدّ لنا من الاتفاقِ علىٰ أنَّ الوضعَ السّياسيّ في العراقِ وفقًا للخلطةِ الأمريكيّةِ؛ وطريقةِ الحُكمِ؛ وتفشّي الفسادِ والخرابِ في مفاصلِ الدّولةِ كانتْ تقودُ للفشلِ كلّما تقدّمَ بها الزَّمنَ. طريقةُ الحُكمِ كانتْ تفتقرُ للحكمةِ والمهارةِ والأداءِ المُتحسّسِ لأوجاعِ النّاسِ . وهي طريقةٌ انتبهتِ المرجعيّةُ العُليا إليها ونبّهتْ علىٰ خطورةِ السّيرِ فيها؛ لأنَّها ستفضي حتمًا إلى خروجِ الأمورِ عَنِ السّيطرةِ، وهو ما حصلَ فعلًا.

يفتقرُ السّاسةُ في العراقِ عمومًا إلىٰ فنِّ الإصغاءِ، وكأنَّ ما يحصلُ بينَ أيديهم كانَ مُجرّدَ تسليةٍ أو لعبةٍ منِ الألعابِ أو عمليةٍ تجاريّةٍ تخضعُ لمنطقِ المُتاجرةِ المحكومِ بالرِّبحِ والخسارةِ. لكنْ ليسَ هكذا تُبنى الأوطانُ.

وتحتَ عنوانِ: (فشلِ التّجربةِ السّياسيّةِ) تسلّلتْ مشاريعُ واستراتيجياتٌ خارجيّةٌ بطريقةٍ ناعمةٍ وملوّنةٍ، غايتها دعمِ العراقِ، لكنّ باطنها كانَ أخطرَ ممّا يظهرُ. وكانتْ احتجاجات تشرين هي الفرصةُ النّاهزةُ التي لم يكنْ العاملُ الخارجيّ والداخليّ ليتركها تمرّ منْ دونِ استثمارٍ؛ قبلها عملتْ مؤسّساتٌ إعلاميّةٌ ومراكزُ أبحاثٍ على حصرِ الفشلِ بالشّيعةِ وترويجِ مفهومٍ أنّهم لا يجيدونَ الحَكمَ؛ وغضِّ النّظرِ عنِ الشُّركاءِ الآخرين؛ لهذا كانتْ احتجاجات تشرين تتحرّكُ في جغرافيّةٍ شيعيّةٍ خالصةٍ وإنْ حاولَ (البعضُ) إلباسها لباسًا وطنيًا، لكنَّ ما جرى وما تمَّ التّركيزُ عليهِ مِنْ شعاراتٍ كانَ يثبتُ أنَّ المقصودَ بالاحتجاجِ هو مساحةُ النّفوذِ الشيعيّ. وليتَ الأمرَ اقتصرَ علىٰ حدودهِ السّياسيّةِ ، بل إنّه تعدّاهُ ليضربَ عمقَ القيمِ والرّمزيّاتِ في عمليةِ تسقيطٍ ممنهجةٍ اتخذتْ من ساحاتِ الاحتجاجِ منطلقًا لها.

بدايةُ الأمرِ تمثّلَ بمحاولةِ سحبِ اسمِ المرجعيّةِ في الشّعارات وتحميلها مسؤوليةُ عمليّةٍ سياسيّةٍ لم تكنْ من صنعها، لكنْ حتّى تجري الأنهارُ وتصبّ في مصبّاتِ المُحرّكينَ للتظاهراتِ، صارَ منَ الطّبيعيّ أنْ نسمعَ (أبو گذلة طلع چا وين أبو عمامة) وهذهِ أولى محطّاتِ تهشيمِ رمزيّةِ العمامةِ وجعلها في خانةٍ واحدةٍ مع المراهقينَ. وبهذا تمَّ انزالُ العمامةِ من مكانتها القيميّةِ بأسلوبٍ غريبٍ يكشفُ عن نوايا مَنْ أطلقَ هذا الشِّعارَ الذي يفترضُ أنّه خرجَ للمطالبةِ بحقوقٍ مشروعةٍ. بعدها انطلقتْ شعاراتٌ تتّهم السَائرينَ على طريقِ الحُسينِ (ع) بالكذبِ وصارَ شِعارُهُمْ في مرحلةٍ ما: (گلها چذب تلطم على حسين)؛ وهنا يتحقّقُ أهمُّ غرضٍ وهو إدخالُ المجتمعِ في منطقةٍ تنافسٍ قيميٍّ من أجلِ تكسيرِ تماسكهِ وتهشيمِ أسسهِ بمعولٍ كبيرٍ. لاحقًا صارَ طبيعيًّا أنْ يتمَّ الانتقاصُ مِنَ أهمِّ رمزيّةٍ عرفيّةٍ اجتماعيّةٍ؛ وهي العشيرةُ وشيوخُهَا حتّى غدا شعارهم:

(الگذلة اليوم تسولف خلي عگالگ للدگات) بعدها انهارَ (المُقدّسُ) بصورةٍ مخيفةٍ فانتقصوا مِنَ: (المعلمينَ؛ والمدرّسينَ؛ وأساتذةِ الجامعاتِ؛ والأطبّاءِ؛ ... إلخ). بطريقةٍ أفقدتْ هذهِ الشّرائحُ احترامَها.

لكنْ يبقى السّؤالُ الأهمُّ ما البدائلُ التي تمَّ تقديمها لتعويضِ هذهِ الرُّموزِ والقيمِ المُنتهكةِ والتي تمَّ استرخاصها لاحقًا؛ وصارَ طبيعيًّا أنْ يتمَّ الانتقاصُ مِنْ جميعِ مَنْ يخالفهم بطريقةٍ أفقدتْ هذهِ الشّرائحُ المُجتمعيّةُ المُتعدّدةُ احترامَهَا. لكنْ ما البدائلُ التي تمَّ تقديمُهَا لتعويضِ هذهِ الرُّموزِ والقيمِ التي تمّ استرخاصُهَا؟

لم تكنِ البدائلُ سوى رموزٍ (شعبويّةٍ) تحرّكها العواطفُ والانفعالاتُ اللّحظويّةُ. فصارَ (أبو التّكتك)؛ معَ تقديرِنَا لجهادِهِ في الحياةِ؛ رمزًا للاحتجاجاتِ التي غرقتْ في (الشّعبويّةِ) واستغلالِ حماسةِ الشّبابِ المُتعلِّمِ منهم والأميّ، مثلما صارَ بعضُ النّاشطينَ في وسائلِ التّواصلِ رموزًا مع وضوحِ ارتباطاتهم بمشاريعٍ خارجيّةٍ مدعومةٍ من سفاراتٍ ودولٍ لا تريدُ إلّا الفتنةَ للعراقِ والاقتتالَ الأهليّ. كذلك عملوا على تقديمِ الشّابّاتِ المُراهقاتِ صفوفَ المُحتجّينَ؛ لجذبِ الشّبابِ بطرقٍ غيرِ لائقةٍ تنتهكُ قيمةَ النّساءِ أكثرَ مِمّا تحترمُهَا. هذا كلّه فضلًا عن نشرِ قيمٍ غريبةٍ علىٰ مجتمعنا والاحتفاءِ بها وسط السّاحاتِ، مثل رفعِ علمِ المثليّين؛ وشاهدنا كيفَ أنّه تمّ الدِّفاعُ عنْ رفعهِ تحتَ عنوانِ الحرّيّاتِ. هذا كلّه جرىٰ داخلَ البيئةِ الشّيعيّةِ وَغُضَّ النَّظرُ عنْ فسادِ السّاسةِ من المكوّناتِ الأخرى.

إنّ الأوطانَ والشّعوبَ كلّها تحتاجُ إلى رموزٍ جامعةٍ تكون سببًا في توحيدها وتجعلها شعوبًا ترتقي بفضلِ أساساتها الرّاكزةِ. كانتِ المرجعيّةُ وما زالتْ إحدى أهمِّ الضّماناتِ لعراقٍ موحّدٍ يمنحُ الفرصَ في العيشِ الكريمِ لجميعِ أبنائهِ. لكنّ المشاريعَ الخارجيّةَ التي كانتْ وما زالتْ تعملُ على تقسيمِ العراقِ وجدتْ أنَّ المرجعيّةَ هي العائقُ أمامَ تنفيذِ ما ترمي إليهِ؛ لهذا عملتْ على تهشيمِ رمزيّةِ العمامةِ وصولًا لمحاولةِ ضربِ قيمةِ المرجعيّةِ. لكنّ النّوايا السّيئةَ السّوداءَ لا تصمدُ أمامَ تاريخِ البياضِ النّاصعِ الذي رسمَ تحرّكاتِ المرجعيّةِ، لهذا صارَ هؤلاءِ يبيعونَ الأوهامَ ويحرسونها، لكنَّ البقاءَ للحقيقةِ.

وقلناها مُنْذُ اللّحظةِ الأولى (هدفهم)

(المُقدّس) الشّيعيّ ورموزهُ وقيمهُ!

و(تدنيسُ) كلِّ النّظامِ الاجتماعيّ الشّيعيّ. من طريقِ ضربِ عمقهِ القيميّ ورمزياته العُليا في عمليةِ تسقيطٍ اجتماعيّةٍ ممنهجةٍ اتّخذتْ من ساحاتِ الاحتجاجِ منطلقًا وغطاءً لها.

ومنَ الجديرِ بالذّكرِ أنَّ المرجعيّةَ الدّينيّةَ العُليا قد وضعتْ اشتراطاتٍ مهمّةً؛ وأكّدتْ عليها بوضوحٍ ودقّةٍ في (أغلبِ خطبِهَا السّابقةِ)؛ لنجاحِ (الحِراكِ الشّعبيّ) وتحقيقِ مطالبهِ المشروعةِ؛ بعيدًا عنْ كلِّ المظاهرِ (غيرِ السّلميّة)؛ التي حاولَ الكثيرونَ منْ داخلِ العراقِ وخارجهِ تحقيقَ أهدافِهِم المشبوهةِ مِنْ خلالِ اختراقِ التّظاهراتِ واستغلالِهَا! وما جرى في النّاصريّةِ مِنْ جريمةِ قتلٍ مروّعةٍ يومَ أمسٍ خيرَ دليلٍ علىٰ ذلكَ! وختامًا وللتذكيرِ إنَّ منْ أهمِّ هذهِ الاشتراطاتِ والنِّقاطِ المهمّةِ التي أشارتْ إليها المرجعيّةُ الدّينيّةُ العُليا؛ هي:

(عدمُ المساسِ بالعناصرِ الأمنيةِ والاعتداءِ عليهم بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ؛ ورعايةُ حرمةِ الأموالِ العامّةِ والخاصّةِ؛ وعدمُ التّعرضِ للمنشآتِ الحكوميّةِ؛ أو لممتلكاتِ المواطنينَ؛ أو أيّ جهةٍ أخرى).

ـــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك