أ.د عليّ الدلفيّ||
ومتى يحملُ المُثقّفُ الحقيقةَ في وجهِ القوّةِ؟!
(إنّ مِنْ مسؤوليّةِ المُثقّفينَ أنْ يقولوا الحقيقةَ ويفضحوا الأكاذيبَ) مِنْ مقولتِهِ هذهِ انطلقَ (العالمِ الأمريكيّ اللّسانيّ الشّهيرِ تشومسكي) ليؤلّفَ عددًا كبيرًا من الكتب قَدْ ناهزتِ المئة كتابٍ.. وهي الأكثرُ استشهادًا عند الغربيّين؛ ولا يتقدّمها في ذلك سوىٰ الإنجيل؛ ومن خلالها قَدْ فضح تشومسكي الممارسات القذرة للسياسة الخارجيّة للولايات المتّحدة الأميركيّة مُنْذُ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ وبروزها كـ(قوّة عُظمىٰ وحيدة). حتّى إنّه قال بهذا الشّأنِ: (لو طبّقنا قوانين محاكمات نورمبرغ؛ لوجب شنق كلّ رئيس أميركيّ أتىٰ بعد الحرب العالميّة الثانية). ومن عناوين كتبه: (ماذا يريد العم سام)؛ و(الديمقراطية الرادعة)؛ و(النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة)؛ و(قراصنة وأباطرة)؛ و(أسرار..أكاذيب وديمقراطية)؛ و(الهيمنة أم البقاء)؛ و(الربح مقدّمًا على الشعب)؛ و(عشر استراتيجيّات للتحكّم بالشعوب؛ و(الغزو مستمرّ)؛ و(الدول الفاشلة)؛ و(الدول المارقة)؛ وهذه كلّها دالة على المضامين؛ وكاشفة للتوهّج؛ والتوجّه الفكري؛ والخطّ الثوريّ الثابت لصاحبها؛ المهووس بهاجس التغيير؛ المعادي لسياسة بلاده الاستبداديّة التوسعيّة الظالمة؛ باعتبارها إمبراطوريّة لا يمكنها الاستمرار دون استخدام القوّة والعنف!
ولنعوم تشومسكي موقف نقديّ تجاه الديمقراطيّة؛ فهي بالنسبة إليه: (مجرّد أداة تستعملها الأقلية بغية التحكم في الأغلبيّة)؛ بحيث تغدو مجرد شكل من أشكال (السيطرة على السكّان) في إطار ممارسة الوظيفة الأساسية للحكومة الأميركية وهي (حماية الأقليّة الأغنياء من الأغلبية) كما قال جيمس ماديسون سنة (١٧٨٧م).
لم يغیّر تشومسكي لونه؛ أو يخرج من جلده؛ مُنْذُ أن برز ناقدًا في الحرب الفیتنامیة؛ لیواصل نشر أفكاره النقديّة للسیاسة الأمیركیّة الخارجیّة والداخلیّة؛ بما فیها رأسمالیّة أمیركا ودور وسائل الإعلام العامّة في (صناعة الإذعان).
أمّا فكرة (صراع الحضارات) التي أسّس لها كلّ من صموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس، فيراها تشومسكي (فكرة خياليّة ملفّقة) ناتجة عن (ظهور مَنْ يريدُ هذا الصّدام مِنْ أمثال أسامة بن لادن وجورج بوش الابن)؛ وهدفها الحقيقيّ إنّما هو القضاء على كلّ قوّة مستقلّة تحررّية؛ ضمانًا لبقاء الهيمنة الأميركيّة على العالم كقوّة وحيدة.
وحين نتكلم على تشومسكي والثقافة يحضر صديقه الأعزّ الراحل إدوارد سعيد؛ ويحضر نضاله؛ وتحضر مقولته الخالدة: (أعتقد أنّ الخيار الذي يواجهه المثقّف هو إمَّا أن يتحالف مع استقرار المنتصرين والحكام وإمَّا أنْ يعدّ أنَّ الاستقرار حالة طارئة تهدد الأقل حظًّا بخطر الانقراض الكامل؛ ويأخذ بالحسبان تجربة التبعية ذاتها؛ وذكرى الأصوات والأشخاص المنسيّين وهذا هو الدرب الأصعب؛ المثقّف الحقيقيّ يقف بالضرورة على الضفة المقابلة للسلطة؛ يقف بسلمية وحيدًا بصدره العاري؛ يصرخ في وجهها بالحقائق التي لا تعجبها ولا تعجب جمهورها الذي ينساق خلف دعاياتها المضللة حول الأمن والوحدة والدين والمقاومة والإرهاب).
المثقّف الحقيقيّ لا يستسلم للحظة الظالمة ولو كان مُقدرًا لها أن تبقى قرنًا؛ بل يهاجمها كما لو أنَّه سيكون السبب في رحيلها. لا تصدقوا كذبة الرأي والرأي الآخر، فتأييد القتل واستباحة الدماء وانتهاك الأعراض وممارسة الكذب والخداع وقول الزور، ليس رأيًا؛ بل جريمة!! لهذا يرى تشومسكي أنَّ (المثقّف هو من يحمل الحقيقة في وجه القوّة). وهو القائل أيضاً: (إنَّ معظم تاريخ المثقّفين يميل إلى الخنوع للسلطة؛ وإذا لم أخنْ هذا العرف؛ سوف أشعرُ بالخجلِ من نفسي). ففي الوقت الذي كان فيه تشومسكي يوجه نقدًا لاذعًا للسياسة العنصرية (للكـ..ـيان الصهـ..ـيونيّ) حيال الفلسطينيين والتي تمثّلت في الدمار والحصار الظالم لقطاع غزة؛ كان المثقّفون العرب في غالبيتهم يؤثرون الصّمت المتواطئ.
ومنهم (المثقّفون) العراقيّون؛ قديمًا وحديثًا؛ كانوا يتربّصون (فرائسهم) المناصب!! وينتظرون أمام (الباب!) ليستلموا أتعابهم وأجورهم! وما حدث في العراق مؤخّرًا دليلًا صارخًا؛ وموقفًا فاضحًا على كذب ادّعاءاتهم وفضح نواياهم؛ وقد تمكّنوا من ركوب الموجة على حساب مصالح الناس العامّة؛ ومطالبهم الحقّة؛ وتضحياتهم الجِسام؛ وقد جعلوا منهم جسرًا للعبور (من التحرير إلى الخضراء) ومن ثمّ حرقهم وقتلهم!!
والحقّ يُقالُ: لقد انهار وضع المُثقّف؛ فنراه لا يسعى؛ فقط؛ لإرضاءِ (الاستبداد)؛ بل حتّى لإرضاءِ (الإمبراطورية الكبرىٰ)؛ مِمّا دفعه ذلك لأنْ يقولَ: (أمريكا خطٌّ أحمر)؛ تصريحًا وتلميحًا؛ على حساب (الحقّ؛ والكرامة؛ والوطن)، فالمُثقّفُ التابعُ ينصرُ القويّ على المستضعف والمظلوم، ويرى مجده؛ وكرامته؛ مرتبطة بعلو صوت التأييد للباطل؛ ما دام يتوقّع أنّه يرضي القويّ؛ أو لعلّه ينال من فتات مائدة المستكبر!
(رَحِمَ اللهُ الثّقافةَ والمُثقّفينَ في عراقِ التاريخِ والحضارةِ)!
https://telegram.me/buratha