محمد عبد الجبار الشبوط ||
حين تسوء الاوضاع في بلد ما بشكل قاسٍ جدا كما هو الحال في العراق وقت كتابة هذا المقال (١٩٢١-٢٠٢١) يكون امام الناس طريقان، لابد ان يسلكوا احدهما:
الطريق السلبي، وهو الاستسلام الى هذا الواقع السيء، والقبول به او التعايش معه على مضض يرافقه اليأس والقنوط، والانكفاء على الذات. والاستسلام يعني القعود وموت ارادة الفعل والسعي للتغيير. وهذا ما حدث في المجتمع العراقي في اوقات كثيرة، قديمة والحديثة، والحديثة ما حصل في عهد صدام المقبور، وما يحصل الان في ظل نظام المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية المقيت. ومع اليأس تبرز ظواهر سلبية اهمها، كما شخّص كارل ماركس (١٨١٨-١٨٨٣) الفهمُ المتخلف والسلبي للدين، او كما سماها التعاسة الدينية حين كتب يقول:"إن التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعب.". والنقد الماركسي هنا ليس للدين، وانما للمجتمع الذي يكتفي بان يجعل من ايمانه الديني "مسكّنا" لآلامه، بدل اتخاذ الدين محفزا للعمل والثورة ضد "التعاسة الواقعية". ومن هذه الظواهر السلبية اقناع النفس بوجود "مؤامرات خارجية" او "قوى داخلية متسلطة" تجعل من المستحيل تغيير الواقع التعيس.
الطريق الايجابي، الايمان بامكانية التغيير، والقضاء على الواقع التعيس وبناء واقع افضل منه. ويعبر هذا الايمان عن الثقة بالمستقبل، والثقة بالذات وقدرتها على التغيير. وقد تطرق القران الكريم في سورة يوسف (الاية ١١٠) الى هذا الخيار حين قال: "حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ"، او كما جاء في سورة البقرة (الاية ٢١٤): "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ". وتعبر الثقة بالمستقبل عن حلم يتعلق به الانسان، حلم يصور له مستقبلا افضل من الواقع الذي يعيشه، وهو الحلم الذي عمل القران على زرعه في اذهان المسلمين الاوائل حين قال لهم:"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور 55). ومثله نقرأ في "الكتاب المقدس" حيث يقول:"لأَنِّي عَرَفْتُ مَا رَسَمْتُهُ لَكُمْ. إِنَّهَا خُطَطُ سَلامٍ لَا شَرٍّ لأَمْنَحَكُمْ مُسْتَقْبَلاً وَرَجَاءً". (إرميا ١١:٢٩) او قوله:"ارْجِعُوا إِلَى الْحِصْنِ يَا أَسْرَى الرَّجَاءِ، فَأَنَا أُعْلِنُ الْيَوْمَ أَنِّي أُضَاعِفُ لَكُمُ الأَجْرَ لِقَاءَ مَا عَانَيْتُمْ مِنْ وَيْلات" (زكريا ١٢:٩).
وواضح من اية سورة النور انها تقرن الحلم او الوعد بعنصري الايمان والعمل. الايمان بالمستقبل الافضل، والعمل على تحقيق هذا المستقبل.
نحن في العراق، نحتاج الى طرد اوهام الطريق الأول، وخاصة اليأس من التغيير، والقعود عن العمل، ونستبدل كل ذلك بالامل الكبير بان القادم لا بد ان يكون افضل اذا اقترن الحلم بالعمل، والسعي، والارادة، والتضحية، والثقة بالذات والمستقبل. ولا نحرم انفسنا من الحلم بقيام "الدولة الحضارية الحديثة"، بعد هدم اليأس والجهل والتخلف والفساد والمحاصصة. ذلك لان الحلم يشكل حافزا قويا للعمل.
https://telegram.me/buratha