ادريس هاني ||
تبدو الحقيقة -حقائقنا - كما يٌستفاد من إحدى شذرات نيتشه، بمثابة تركيب من الميتافورا والكنايات التي طال عليها الزمن، ونسينا أنها هي تلك الاستعارات فحسب، التي منحناها عبر جودة الشعر والتكرار معنى الحقيقة. سأقف عند مفهوم النسيان الذي يدخل كجزء مقوم للحقيقة. ما يعني الوهم والتواهم في إنتاج حقائق على مقاس شروطنا الاجتماعية، ميولنا الشخصية، مصالحنا المشروعة والانتهازية، أي ما يرضي رغبتنا في استعجال هذا النسيان.
هذه الحقيقة الرخوة وتلك القناعات الهشّة وحدها تشكل الفيصل الحقيقي بين طريقتين في المعرفة: طريقة النسيان التي يضمنها السُّبات الأيديولوجي، لدى كائن "مسرنم" يقوده اللاّوعي ليلا في الطرقات، تأكيدا على انحراف وظيفة الأيديولوجيا نفسها باعتبارها حمال ذو وجوه، تبدأ محنة الحقيقة معها حينما تستقل عن المعرفة وأدواتها لتصبح سيمولاكر تضليلي، نستهلكها وندخّنها كالماريغوانا أو القنب الهندي، وهناك طريقة اليقظة والوعي الذي يفتح البصر والبصيرة على شروط المعرفة بشجاعة لا تذر شيئا مما يلزم منها ولا تهوّل ما لا يلزم منها، هناك إذن يكمن الفرق بين الشجاعة من أجل المعرفة والجبن إزاء الحقيقة. هل يمكن أن نستقبل الحقيقة وننتصر على الضعف والجهل كانتصار الفرسان في الميدان؟
لماذا يخشى الناس من التاريخ والوثيقة؟ إنهم يخشون من التّذكّر، يخشون أن يخرجوا من نسيان الأصل الذي تقوم عليه تلك الحقائق، يخشون أن يفقدوا حقائق آنسوا بها حدّ الغباء، وهم كالبُلْه، عاجزون عن التخلّي عن أوهامهم.
إننا نسير فوق حقل ألغام، فالحقيقة ليست معطاة، بل هي في الغالب نتيجة بحث وتحصيل. لقد تراجع الحدس ليفتح المجال للمعرفة التحصيلية والبرهانية، كما تراجع الخيال إلى حدّ أنه جعلنا أعجز ما نكون عن الإقناع لا بالبرهان ولا بالشّعر، إنّ الحقيقة تعاني اليوم أكثر من أي وقت مضى من الرعونة والتّفاهة، المعرفة باتت ضربا من البهتان الذي يكفله العناد.
إنّ نسيان الأصل معضلة إبستيمولوجية، تتطلّب سياسة حفر وتفكيك قصوى، فلقد ورث الذهن البشري نمطا في التفكير يقوم على هذا النوع من النسيان. أزمة الحقيقة في العالم تكمن في أنّ العالم يعتقد أنه بالفعل يعيش على سبيل الحقيقة. وهذا وهم كبير لسببين:
-السبب الأوّل، أنّ الناس فقدوا قوة البرهان
- السبب الثاني، أنّ الناس فقدا قوة الحدس
لم تعد الحقيقة، إذّ ذاك، تعني الإنسان في زمن التّفاهة. ومهما حصل انقسام في الأنواع الاستيعارية، فهناك إجماع على التّفاهة في كل اتجاه، تافهون حتى في تدبير الحقيقة، تافهون في سبر أغوار الحقائق، تافهون في أشكال التدين، تافهون في أشكال التّملحد، تافهون في الثورة والخضوع معا، التّفاهة عنوان مرحلة احتضارية -لا حضارية - لأنّ قوام التحضر هو الحضور في الزمان والمكان بما يعنيه فعل اليقظة والتذكّر وقوة الحدس وصلابة البرهان. فالعصر وبفضل السياسات أيضا ارتضى لنفسه حوصلة عقل فاقد لقوة الاندفاع في الآفاق، شيء من ردود الفعل يكفي فيها النّخاع الشوكي بدل العقل.
حينما ننحدر إلى البيداء العربية، نواجه هذا النمط حاضرا لدى سائر الفئات بما فيها النخب، الانطلاق من وهم الملاء، وغياب غريزة الفضول التي تدعوا للصبر على الرّهق المعرفي، واكتمال الحقيقة. يُنصت الإنسان في هذه البيداء، وله الاستعداد للإنصات مدى الدهر للتفاهة المتكررة، ولكنه عاجز عن الإنصات لحقائق الأشياء. مرض فقدان الشهية للمعرفة، والاكتفاء بالتكرار وما تسطّح من الآراء.
إن غابت الشهية والصبر والفضول والجدية والأدوات المعرفية، فما هو مصير الحقيقة في العالم؟ حتما تستطيع أن تأخذ فكرة كاملة عن اهتمامات الناس، عن طبيعة القناعات التي تتشكل وكيف تتشكل؟ علم اجتماع المعرفة كفيل بجعلنا ننظر إلى الحقيقة كما هي متداولة في المجال العمومي والخاص، نظرة مختلفة.
في معارفنا التي نحيطها بخداع عاطفي، نؤكد باستمرار عن غياب الجدية في طلب الحقيقة، كما أنّ غياب وحدة الحكم على الأشياء واختلال المعايير هي من أساليب الخداع التي بها تحيى الكائنات في زمن موسوم بما أسميه الكائن الأنطو-ميتري. إنّ المخرج يكمن في إعادة تحليل ما تراكم قبضا على ما قبل لعبة النسيان والإنساء في مسار معرفي شديد التعقيد. مجال المعرفة وسبر الحقيقة ليس مجالا للعنتريات، بل هو مجال لتقنية الفرسان الذين لا يتراجعون في تتبع أطياف المعاني وهروب الحقائق بفعل النسيان وأنماطه الحاكمة على العقل الجمعي.
حتى الوعي الديني بات وعيا مغشوشا، حتى التعاليم تمّ تهريبها لصالح التهريج. لا يمكن أن نتحدث عن الوعي إلاّ كتعبير عن البصيرة، ولا يمكن الحديث عن البصيرة إلاّ بوصفها تذكّرا لا نسيانا، وما بين أيدينا حقائق مغشوشة برسم النسيان، بينما البصيرة تذكّر:(تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ). إنّ الفوضى هي البيئة المناسبة لقيام معرفة قائمة على النسيان وليس معرفة قائمة على التّذكّر. علينا أن نتساءل وباستمرار: من أين لك هذا؟ وليُسأل الإنسان عن طعامه-علمه، من أين أخذه، معطياته من أين استقاها، حقائقها من أين استلهمها. الاستخفاف بالحقيقة وطرائق الوصول إليها أو التعاقد حولها هو مؤشّر على الاستخفاف بما يترتّب عليها، بما يلزم عنها، أي المسؤولية المزدوجة تجاه الحقيقة:
-أولا كيف نحصّلها وبأي أدوت مشروعة نشق طريقنا نحوها.
- ثانيا، كيف نتحمّل نتائجها ولا نخذلها ونخذل أهلها.
هذه المسؤولية هي ما يحدد الاستقامة الأخلاقية والمنهجية والعلمية، فقل لي كيف تدير الحقيقة، أقول لك من أنت.
ادريس هاني/ كاتب وباحث من المغرب :13/9/2021
https://telegram.me/buratha