عباس عبود سالم ||
في سنة 1992 تقدمت ومجموعة من زملائي طلاب قسم الفيزياء في كلية ابن الهيثم للعلوم الصرفة للتطوع بصفة ضابط ومدرس فيزياء في الكلية العسكرية الاولى بناء على اعلان لمديرية التاهيل المهني يخص طلبة قسمنا فقط.
اجتزت الفحص الطبي المعقد والصعب بنجاح وقد جرى في مركز سنان بن غالب الليثي في باب المعظم ثم اجتزت فحص اللياقة البدنية في الكلية الفنية العسكرية
وتاهلت لدخول المقابلة في مقر مديرية التاهيل المهني التابعة لوزارة الدفاع.
في يوم المقابلة كانت اسمائنا موزعة حسب ايام الاسبوع والدخول مجاميع كل مجموعة مكونة من خمس اشخاص لنقف امام لجنة المقابلة وكنت في مجموعتي مع اربع شباب علمت انهم من محافظات الانبار وصلاح الدين وانا الوحيد بينهم من محافظة بغداد.
دخلنا الى لجنة المقابلة وقد كانت اول مرة في حياتي اشاهد فيها ضباطا برتب رفيعة وجها لوجه، كانوا ثلاثة ضباط كبار لا اذكر بالضبط رتبهم فقط اذكر انهم كانوا يضعون شارة الركن.
وقفنا نحن الخمسة امامهم وهم كانوا يجلسون خلف منضدة وضعت عليها ملفات كثيرة يبدو انها اعدت للمقابلة.
ووسط هدوء مخيف صاح احد الضباط الكبار باسم احد الشباب الاربعة فرد عليه الشاب نعم سيدي فقال له الضابط انت من الانبار؟
قال له الطالب نعم سيدي.
فرد عليه الضابط بابتسامة من اي عمام انت؟
قال له باسم عشيرته واسم شيخ العشيرة ومعه سلام وتحية (وكانت من عشائر الانبار الكريمة) وماكان من الضابط الا الابتسامة ومعها تحية وسلام الى شيخ العشيرة ومباركة لهذا الشاب الذي خرج مزهوا ببداية ناجحة في سلك العسكرية العراقية.
تكرر الموقف مع الشاب الثاني والثالث والرابع والسؤال دائما عن العشيرة ينتهي بالسلام على شيخ العشيرة ومختار المنطقة وكان احد الاسئلة عن اسم نخوة العشيرة التي ينتمي لها احد هؤلاء الشباب اي (اخوة فلانة) وانتهى امر اعضاء مجموعتي بدقائق مرت بسرعة.
خرج الشباب الاربعة يتسابقون بالزهو والسعادة وكنت انا كذلك قبل المقابلة مزهوا بما احمل من مواهب وثقافة اعتقدت يومها واهما انها سلاحي القوي و اني اتفوق على اقراني ومنهم من شاركوني عضوية هذه المجموعة لكن بعد ان وقفت وحيدا امام الضباط الثلاثة الكبار ودب الصمت لثوان كانت تسير ببطء تغيرت قناعاتي.
وكنت مضطرا لتهيئة اجوبة جديدة اذا تم سؤالي عن عشيرتي وشيخها ونخوتها ومختار المنطقة مثلما حصل للاخرين لكن الامر معي كان مختلف بشكل جذري.
سحب احد الضباط الثلاثة ملف من امامه وتفحصه باهتمام ويبدو انه خاص بي وقال لي بتشنج انت من اي محافظة؟
- من بغداد استاذ
• من اي منطقة في بغداد
- من الشعلة
هنا تدخل الضابط الاخر وقال لي بامتعاض
جماعة صفحة الغدر والخيانة ..انت شاركت بالغوغاء....! ويقصد الانتفاضة الشعبانية.
قلت له:
- ليش اشارك استاذ انا طالب جامعة واخاف على مستقبلي.
هنا نزل صمت مخيف على القاعة
ثم عاد الهدوء الى الضابط وتوجه لسؤالي
• انت شنو عشيرتك؟
- جيزاني استاذ
• من الكوت؟
- لا من من بغداد استاذ
• ابوك وين ولادته؟
- العمارة قلعة صالح استاذ
واذا بوجوه الضباط الثلاثة تنظر الي بامتعاض واستهزاء وهنا دخل الضابط الاخر على الخط وقال لي كلمات لم ولن انساها ...
• بيتكم بالشعلة واصلك من العمارة وجاي هنا!!! شتسوي هنا هذا مو مكانك ....!!
... انت عندك كرايب بحزب الدعوة؟؟ عندك احد خارج العراق؟؟؟
• لا استاذ
ثم سالني اسئلة اخرى احسست حينها اني في غرفة تحقيق لا في قاعة مقابلة !!!
• من هو اول وزير دفاع بعد الثورة ويقصد انقلاب 17 تموز
- حماد شهاب
شنو اهم صفة في الضابط؟
- الحزم والانضباط
• وراها قال لي انت ليش راسب سنتين بالكلية؟
- كل طالب يرسب وينجح
هنا التفت الى الضابط الجالس الى جانبه وقال له:
هذا مرتبها حتى ينهزم من العسكرية يردون يبقون بالجامعة حتى ما يلبسون عسكرية ثم ضحك باستهزاء وغرور .....!
وتوالت الاسئلة مدة تجاوزت ال 20 دقيقة الى ان انتهت المقابلة وخرجت منها بقناعات راسخة هي ان من يقبض على المؤسسة العسكرية العراقية ومن يقبض على السلطة في العراق اجندة طائفية تمارس التمييز السافر بين المواطنين ...
فتقرب من تشاء وتبعد من تشاء بارادة سلطة ظالمة .
خرجت من هذه المقابلة بدرس لن انساه الى اخر يوم في عمري.
ومنذ تلك اللحظات عقدت العزم مع نفسي على العمل من اجل التخلص من هذا الظلم والتمييز الطائفي ...
ومن اجل العمل على بناء وطن لا يظلم به مواطن بسبب انتماءه المذهبي او القومي.
• واحمد الله اني خرجت من هذه المقابلة بدرس حقيقي من الصعب ان اقراءه في كتاب او اسمعه من شخص اخر لانه يكاد لايصدق !!
• لقد عرفت ان من يحكمنا عصابة ينقصها العدل وينقصها احترام المواطن وان مايقال عبر وسائل الاعلام هو بالعكس تماما مما يحدث على ارض الواقع، لكن الاحساس المؤلم ان التمييز المذهبي مازال قائم في العراق وان ثقافة التمذهب باقية وتتمدد.
https://telegram.me/buratha