مازن البعيجي ||
الحاج ابو مهدي.. خادمٌ للحسين "عليه السلام"منذُ نعومة اظفارهِ والى آخرِ عمره الذي ختمهُ بعد أربعٍ وثمانين عاما، وكلّ عامٍ وموكبُه الصغير يتّسع وينمو حتى كبُر ببركة المداومة على الخدمة بمقدار السعة والأمكان، معروفٌ عن الحاج "أبي مهدي" أنهُ كالحارس الذي يُشرف بنفسهِ ويدير جميع شؤون الموكب وما يتعلّق بوسائل الخِدمة، وقد أصبح موكبُهُ عبارةً عن مساحةِ ثلاث دونمات على طريق -نجف كربلاء- بعد أن بدأ خيمة صغيرة بحجم عشرة أمتار ، وفي كل عام وقبل حلول شهر محرمٍ بأيام، يقوم الحاج بجولة تفقّديّة لإدامة المُؤَنِ ومواد الطبخ ومايتعلق بالموكب من وسائل الراحة من فُرش وصيانة النواقص ولوازم الكهرباء ومايتعلق بالصحيات وغير ذلك، لتجده قبل موسم الزيارة وقد أعدَّ كل مايُلزم الزائر من أدنى حاجة الى أكبرها، وفي كل عام لابدّ من إضافةٍ تساهم في توسيع موكبه في خدمة الزائرين، والأعداد في تزايد وهو المتصدّي الخادم لحَمل المسؤولية في كل صغيرة وكبيرة وقد طوّق ظهره بحزام يُعينه على عناء الوقوف طول الوقت وبين الحين والآخر يلوّحُ بيديه مطلِقًا صوتُه الحنون بعباراتِ الكرم والضيافة بترانيم البذل الحسيني المتعارف عليه.
(هلا بزوّار ابو علي، تفضلوا كل شيء متوفر بخدمتكم)بصيغةٍ توسّلية، وأحيانا كثيرة تصلُ حدّ البكاء حينما يشعر بقلة عدد الزوار الذين يقوم على خدمتهم ، معتَبِرًا ذلك تقصيرًا ونقصًا وخللًا ، وهو ذات الشعور الذي يلازم أغلب أصحاب المواكب والخَدَم، فمهما بلغ حجم العطاء وتضاعَف مجهود الخِدمة إلا أنه يبقى ضئيلًا في نظرهم، حتى كأنهم لم يقدّموا شيئا، إنه شعور بحجم العشق وعمق تأريخ نشوئه.
للحاج ولد واحد فقط -مهدي- وكان كلما وجد فرصة للتذكير يقول لولده: ولدي مهدي، لا تترك خدمة الحسين وزواره إذ انا رحلتُ عن هذه الدنيا، أمّا مهدي الذي لايقلّ حبًا وولعًا في الخدمة وطاعة لوالديه، غير ان له تطلعاته وأحلامه كما أكثر الشباب ما يجعله محدود الإمكانية في تحقيق رغبة أبيه كما ينبغي، فهو يفكّر إن لم يكن قد صمّمَ على فكرة إكمال دراسته خارج العراق لرغبةٍ عاشت معه منذ مرحلة الإعدادية وحصوله على معدّلٍ أهّله لاختيار افضل الجامعات.
وجاء اليوم الذي بدَأت بوادر رحيل أبا مهدي عن الدنيا بكلّ ذلك الزخم الطيّب، من سمعة عطرة وخُلق نظيف، علاوة على مايزيّن صدره بأوسمة "شرف الخادم" طوال سني عمره وها هو اليوم يحتضر ليودّع الأهل والأحبة، إذ أحاط به جمع من الناس وقد حضروا عنده بمجرد سماع نبأ تردّي حالته الصحية ما جعل باحة البيت تزدحم لتتسرب الأعداد الى خارج حدود منزله، ولعل مايحدث هو امرًا طبيعيا يتكرر مع من يسلك طريق الحسين "عليه السلام" ويركب سفينته وهو الشرف المعلى..
وكان آخرُ وصيتَهُ للحاضرين بما فيهم أقرانه من أصحاب المواكب، "أن لا تتركوا طريق الحسين فهو خير الزاد للدنيا والآخرة حيث لمستُ ذلك بنفسي وأقولها عن يقين غير شاكٍّ ولامشتَبه، فلا تغفَلوا إدامتها وألتمسوا حسن الخاتمة منها!
ثم نطق الشهادة بطريقة المرتاح المطمئن والواثق ، وفاضت روحه التي بلاشك ستكون بمحضر أبي عبد الله الحسين "عليه السلام" في أول محطة له في قبره.
مرَّ على وفاة الحاج تسعة اشهر ، وقد هلّ شهر محرم ، ومهدي يتجهّز منشغِلًا في عملية إكمال الأجراء الروتيني للسفر خارج العراق على أمل إكمال دراسته لنيل الشهادة العليا في "قسم الكيمياء بجامعة هامبورغ"
أصحاب والده ورفاق دربه قلقون بشأنه "مهدي" وتركه العراق الى ماشاء الله وهو الوحيد الذي يذكّرهم بالحاج "رحمه الله" وكلما سنَحت الفرصة يتكلّم بعضهم معه بنصيحة المحب دون الضغط عليه إذ يوحي له كمن لديه أمنية في بقاء موكب الحاج أبا مهدي شاخصا متميزا بين مواكب خَدَمة الحسين وأن لا تندثر معالمه ولطالما سَعوا في إقناع "مهدي" وتذكيره بذلك الشرف العظيم فضلا عن أمنية والدته التي هي الاخرى لاتقِلّ شغفا في بقاء موكب الحاج زوجها ماثلًا ثابت الأعمدة وهي التي عملت معه جنبًا الى جنب في خدمة الزائرين وكانت طوع إشارته طوال سنين العشرة الكريمة.
وها قد اقتربت أيام الحسين وقد رحل الحاج عن الدنيا وقلوب محبيه على وجَلٍ من احتمال غياب موكبه بين المواكب، حتى بدأت إمارات الاستعداد في تحضير الخيم والسرادق على طول طريق -نجف كربلاء- وهي تلملم شتاتها،
أمّ مهدي بدت واجمة وقد خيّم عليها الحزن والدموع تترقرق في عينيها الذابلتين حرقة ولوعة لغياب ربّان سفينة خدمة الحسين وهي تتأمل معدّات الموكب واغراضه المكدّسة في مخزنٍ خاص بها ولاتدري ماذا تفعل لتنهي حيرتها بصرخة العاجز: ياحاج أبا مهدي موكبك بانتظارك هلا أتيت؟!!!
لتنتبه فجأة حتى تكرُّ راجعة مسترجِعة وهي المؤمنة بقضاء الله، ولكن عشق الحسين أصابها!!
لايزال "مهدي" في دوّامة إجراءات السفر حتى جاءته دعوة من أحد أصحاب والده المرحوم لحضور مجلس عزاء كالعادة في كل عام، وقد صادف بين الحاضرين أحد اولاد الحاج "ابو رضا"وقد تخرّج طبيبًا من إحدى جامعات كندا ، وحياته مستقرة حسبما تبيّن من خلال الحديث الحاصل بين الأصدقاء، لكنه عاد هو وعائلته الى العراق ليتجهّز للخدمة مع أبيه هذا العام ، الأمر الذي شكّل صعقة عند مهدي لايعرف منشؤها!! وبينما هو راجع الى بيته تملّكه همٌّ وانقباض اجتاح كل ذرة من كيانه، واثناء الطريق يفكّر في أمر "رضا" الطبيب المستقر نفسيا وعائليا.. ترى مالسبب الملحّ الذي يجعله يعود الى العراق رغم حصوله على الجنسية الكندية ليستقر ثانية مع اهله في بلده!!!
بات مهموما منزعجا، ومما زاد في همّه رؤية أمّه المنكسرة وهي تحدّق في صورةٍ لزوجها كأنها تعاتبه وتشكو له تعطيل الموكب وانفراط عِقدَ الخدمة والخدم ليصبح مكانه فارغا من حياة وحركة عشاق الحسين.
اخذ مهدي مضجعَهُ على غير عادته متوسلًا بمولاته فاطمة الزهراء "عليها السلام" ان تعينَه على تحقيق حلمه وتسهيل أمر السفر والدراسة دون عقبات!
واذا به في عالم الرؤيا كأنّ معركة الطف بصهيل خيلها وصليل سيوفها وتراشُقِ سهامها ورماحها صوب معسكرالحسين وأصحابه.. وكلٌّ يتسابق للذود عن أبي عبدالله لئلا يصيبه سهم العدو لكنه أثخنَ بالجراح والطعنات، وأصوات عويل النساء والأطفال كصرير الريح العاتية تصمّ الاسماع ومهدي في وسط كل هذا المشهد يقف مذهولا لايعرف مايفعل ولايهتدي السبيل، غيرَ مصدّقا لما يجري! خيام تحترق والنيران بأذيال الحرائر عالقة ولا منجد.. وبينما هو كذلك إذا برجل يهرول نحوه لاطمًا رأسه مرتديا زي الأطباء مفجوعًا صارخًا حتى جلس عند رأس الحسين "عليه السلام" أخذ الرأس الشريف ووضعَه في حجره وهو يصرخ حتى شقّ صراخَه عنان السماء: يا أبا الله روحي لك الفداء.. أقتربتُ منه لأرى وجه رضا ابن الحاج ابو رضا صديق والدي، وقد وقفَتْ بجانبه امرأة لم أرَ غير شاخصٍ لها وهي تلطم وتقول: لقد تأخرتَ يا دكتور عن ولدي!!
ووسط تلك الدهشة والذهول والفجيعة إذ يجد "مهدي" نفسه صارخا مرعوبا لكنه على سريره، وبعد برهة تنبّهَ على صوت أمه وهي تحتضنُه وتذكر اسمَ الله عليه وتصلي على النبي وآله وتمسح على جبينه حتى استفاق ليفهم أنه في عالَم الرؤيا وقد استلم الرسالة.
عندها قبض على يديْ أمّه بحبّ وحنان قائلًا لها .
أمّي: لقد رأيتُ أمرا عَجبا في عالم النوم.. وطفقَ يقصّ عليها مارأى ليجد أمه وقد أُغميَ عليها من شدة البكاء والتفجّع، عند ذلك توجّه "مهدي" في التوسل والإعتذار من سيد الشهداء "عليه السلام" وراح يفكّر مَليًا، أن مارأى ليس ضربا من أضغاث أحلام، إنما والله لرسالة حبّ ودعوة لايحظى بها إلا من امتحن الله قلبه في حب الحسين..
استيقظ مهدي باكرًا وجلس مع أمه روح أبيه "رحمه الله" وشريكة عمره ورفيقة دربه وقال:
أمي: أنا من سيتولى مسؤولية موكبنا لهذا العام وهو اول عامٍ بغياب أبي وسيبقى عامرًا في كل عام مادمتُ حيًّا بإذن الله تعالى فلا أحَبَّ الى نفسي بعد اليوم من خدمة مولاي الحسين وإدامة ذكرهِ والبذل في سبيله، وكلّ شيء يهون لأجله "روحي فداه"
تهلّل وجه الأم فرحًا وهوَت ساجدة لله شكرا وقبّلت جبينه وأخذ مهدي بيد أمه حيث المخزن الذي فيه لوازم الموكب، وبينما هما منشغلان بإخراج الأغراض خارج باب المنزل إذا بمجموعة من شباب أهل الحيّ ينادون يامهدي نحن هنا أجعل لنا نصيبا معك في تحضير الموكب وإلّا شكوناك للحاج المرحوم ، ضحكَ مهدي بنشوة المنتصِر على نفسه وبأحساسِ القرب من مولاه الحسين وأمّه الزهراء صاحبة العزاء
"عليهما السلام" ليعرف مهدي وكلّ من تفاجأ باستمرار موكب أبي مهدي بعد موته بأن الحسين "عليه السلام"
لايسمح بسفر خدامه.
البصيرة ان لا تصبح سهماً بيد قاتل الحسين ومنه يسدده على دولة الفقيه ..مقال قادم نلتقي..دمتم)..