المقالات

نحن في قلب خرائف الزمان وليس التاريخ


  ادريس هاني ||   لا زال التاريخ يحيرني، فلسفة ومنهاجا، ولعل السبب في ذلك أنّني اخترت التّأمل في التاريخ بالتّاريخ، أي بالزمن الممتد لا المتصرّم، شهادة الحاضر وآناته على الماضي الذي يبلغنا ككلّية من ضمير المؤرّخ. إنّ الصورة تنتقل في الخيال حتى حينما يتعلق الأمر بالصورة الواقعية كما نستهلكها في وسائل الإعلام المرئي ومع أعظم أجهزة البثّ. من يدرك فيزياء الصورة سيدرك حقيقة أنّنا نستكملها من عنصرين: - غفلة الحواس وانخداعها، بل وقصورها عن ضبط تفاصيل الحركة - الخيال الذي يستكمل الثقوب التي يعجز البصر أن يستوعبها في انقذاف الصورة على نحو متقطع بالغ السرعة. ما بالك بالصورة التي ينقلها المؤرخ، وتبلغنا ككلية، فيما تغيب عنا تفاصيل كثيرة. ولهذا السبب تحديدا يصبح من السهولة بمكان أن يتعرض التاريخ للتحريف. يتحدث البعض عن حاجة كل العلوم إلى التاريخ، هذا بديهي، بل أحيانا جزء من أزمة العلوم هو تاريخها، غير أنّ لا أحد ميز بين حاجة التاريخ للتاريخ وحاجة التاريخ لضامن علمي يحصنه من التحريف. حاجة العلوم إلى التاريخ بديهية، فالتاريخ نفسه يحتاج إلى التاريخ، لكن من يضمن يا ترى صحة الحقيقة التاريخية؟ إنّ غريزة التحريف لا تستثني حقلا من حقول المعرفة، ولكنها في التاريخ أخطر إذا لم نستعيد الحدث في عين الحاضر الذي يضعنا أمام نقائض الأحداث وتورختها. إنّ الأمم تعيش على سبيل الوهم التاريخي كلّما تنكّرت للوعي التاريخي الممتد في حاضرها. والعرب كثيرا ما يسليهم التاريخ المزيف، بل يرتبون آثارا على الوهم، بل من التاريخ ما افتأتنا عليه. إنّ التاريخ يفسر بعضه بعضا، وجب قراءته في تفاصيله وآناته ووثيقته الكاملة. إن التاريخ الذي يعبر عن استعارات تؤثث لأمجاد وهمية، هو إنشاء يدخل في الآداب السلطانية وأيضا في المقامات الأدبية. فالتّاريخ ليس فقط وثيقة، بل تأويل للوثيقة، وأيضا تحقيق لمناطها. ولأنّ العرب يعشقون الحكي، ويتبرمون من التّأويل والاستنباط، فقد حكموا على أنفسهم أن يبقوا خارج التّاريخ، وحين يعتقدون أنهم يوجدون في التاريخ ، فذلك نابع من وهم يقودهم إليه الخلط بين التاريخ والخرافة. إنّنا مدينون لتلك الأحداث التي يخفيها المؤرّخ، أحداث من شأنها أن تربك صورة المعمار التاريخي وما ترتب على ذلك من آثار من شأنها أن ترتبك مع تحوّل الصورة، أجل نحن مدينون لأولئك الأبطال التاريخيين الذين كانوا يصنعون التاريخ ويخاطبوننا من بعيد، حتى أنّ قومهم لم يلتفتوا إلى حكمة بيانهم ونهجهم، لقد كانوا يائسين ممن حولهم، من الوعي المثقوب. لقد تواصلوا مع حاضرنا أكثر مما فعلوا مع الماضي، لقد رفضوا أن يكونوا شهود زور على التاريخ وفي التاريخ، لكنهم فضلوا أن يصنعوا حدثا غير قابل للتفسير بأدوات عصرهم، لكننا نستطيع قراءته بأدوات عصرنا. إنّ التاريخ الحقيقي يقتضي الإنصات لمحنة التراث وما استبعد منه وما تعذّر تفكيره وتأويله بأدوات عصره. ما كان بالإمكان أن ندرك مهزلة التاريخ لولا هؤلاء العظماء الذين رسموا بالموقف والتضحية معالم تراث آخر، لقد كان خيالهم نبيلا، لكن الخيال غير المصنّف هو خيال مخاتل يقع في صلب العملية التحريفية التاريخية. فعل تحريف التاريخ ليس حدثا تاريخيا، بل هو فعل مستمر يعتمد غفلة الحواس، والخيال لترميم فتوق الحدث. يكثر في التاريخ الوهمي صور الخيال ومزاعم لا ترسوا على قرار. حين يُقرأ التاريخ من سردية واحدة، وعلى حين غفلة من الوعي، وفي غياب المؤرّخ-المحقق، فسنكون دائما أمام جولة من جولات التحريف، وما أسهلها من صناعة عند مخاطبة العوام، وما أصعبه من موقف عند مخاطبة المحققين. لا شكّ أنّ تاريخنا لم يكتب بعد، ولكن عليه أوّلا أن يصفّي حسابه مع إرادة التحريف ومع الثرثرة غير التاريخية.   ادريس هاني/ كاتب وباحث من المغرب   :14/9/2021
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك