ادريس هاني ||
إنّ فكرة التحرر لا زالت بعيدة المنال، لقد تمّ اختزالها في وَثْبَات الصعاليك، كيف نحقق التحرر وليس في الرأس مفهوم منضبط ونسقي عن الحرّية؟ حيّرتني عصائب البيداء العربية الذين هم حقّا ليسوا أحرارا في دنياهم، هم يملكون قدرة فائقة عى خلط الأوراق والصّخب، هم لا يحسنون أن يقرؤوا الواقع ويقدموا ما به تتحقق الاستقامة في البصيرة والنظر. تائهون ضائعون بين اثنتين لا ثالث لهما: العبودية والدّجل.
ما أيبس رؤوس العبيد حتى وهم يهتفون: حرية، حرية. إنّ العبيد لا يوثق فيهم، ومن ليس له عرق دساس في التحرر فطبعه سيغلب على تطبعه ولا تطبيعه. إنّ خريطة التحرر واحدة لا تتجزّأ، وما لم يدرك العرب معضلتهم بشجاعة، ويكفوا عن المزايدات بعد أن كانوا ولا زالوا جزء من معادلة الهزيمة، فلن يكون هناك سوى التشرذم والاضمحلال.
أبحث عن معجم ألفاظ بلا لحن، أبحث عن مفهمة مستقيمة الدلالة، عن استقامة في النظرية؟ لا يوجد، نحن تحت طائلة المغالطة، نحن فقط يُراد لنا أن نهضم المغالطة. إنها محاولة اغتصاب للنسق الدلالي للحقيقة في التاريخ والجغرافيا، انتهاك لشرف العقل.
سياسة الإهانة والاستفزاز لمّا تصبح وردا يوميا فهي تصنع ردود أفعال لا حدود لها، لا سيما حين يحاول الأغراب أن يدخلوا بغير المساعي الحميدة، بينما يظنون أنهم يحسنون صنعا. والآن المنطقة تتجه نحو الانفجار، ولأسباب عصبية ومزاجية ونفسية، لا سيما حين يتدخل الأغراب ويؤشرون بأصابعهم المفرومة مهددين أمما، يعتقدون أنّ فرائصها ترتعد، وهم لا يعلمون أي انفجار نفسي قد تحدثه هذه الرعونة وأي رغبة في الثأر، وهناك من يستغل هذه التصاريح في مزيد من الحرج. لقد بلغ السيل الزبى، وهناك من يساعد الشيطان أن يحفر في العمق بسياسات عدوانية، ولا يعلمون أنّ الكلمة اللامسؤولة هنا تدخل في اللاوعي الجمعي ولن تُنسى أبدا، هنا معدل الثأر مرتفع جدا، تنسى ولا ينسوا، ولكن هناك من يريدونها عوجا.
لقد صعَّب هؤلاء المهمة على من يريدون الإصلاح، لقد كانوا أنانيين، ورواد الفرجة وحبّ الظهور والمصلحة الشخصية. الرسائل المشفرة للأولاد لا تفعل سوى أن تفتح حسابا لمن يعتقد أن الكلمة تقال وتنتهي. العنترية الغبية تعني تعقيد الواقع. لا تجدهم حين يحمى الوطيس ولكنك تجدهم في مهرجان النهيق. قال حرفوش سياسي: لو ثم لو...هذه اللو ابتلعها، ولا تحتاج أن تلولو، فقط تعالى لترى عجبا، لترى ما لم تراه من أولئك الذين استهنت بهم في تملّق رخيص لسلطة أخرى، ففي النهاية توجد سلطة ويوجد عبيد يلحسون الجوخ، هناك عبودية تتصرف بأكثر من ستايل، ولكنهم مأخوذون بالجهل وفساد الضمير والتفاهة لإطلاق اللسان الطويل الذي قلت: وحياة طاش ما طاش سيُقطع.
العبيد لا يميزون بين الرغبة في السلام وبين الخوف، العبيد يحرجوننا، يعقدون الأمور، يتدخلون حيث وجب أن يلجموا أبوازهم، مولعين برسم بورتريه في بيداء وسخة، كل ما فيها وسخ، يبحثون عن الحمائم في مزرعة الغربان، يبحثون عن النسور في قطيع البغاث والزرزور، يبحثون عن المقدس في المدنس، يبحثون عن الحقيقة ليس تحت القمطر بل في العويل والتمسرح، ويحلمون قدر غبائهم، بينما كل الأعراب في الهمّ شرق.
أن تكون حرّا هي أن تقول: قبح الله البيداء العربية. التماهي مع خطاب ما لأنه يشكّل أداة المرحلة لا ينفع، الاستهتار بتاريخ وجغرافيا الأمم له عواقب وخيمة. لا يوجد أملس في قنافذ العرب، إنّه فريق من النصب والاحتيال لا يتقن سوى بيع الماتش، وكل بطريقته. ولأننا نقدس مبادئنا، فلن تمرّ علينا ألاعيب القوادة السياسية الممسرحة.
لسنا في فيلم سينمائي، نحن أمام تراكمات كبرى كانت ستؤول حتما إلى هذه الوقائع. ومن يتجاهل ويتلوّى بدعوى الوضوح في قراءة هذا التعقيد، فهو خارج المغزى الذي تمنحنا إياه معادلة الصراع والميراث القذر للاستعمار الذي يسكن الأعماق السحيقة للجميع بمن فيهم الذين يقولون: فليسقط الاستعمار. إن سيكولوجيا العرب وغير العرب في البيداء الثالثية هي سيكولوجيا مضطربة، سيكولوجيا مسكونة بمركب ستوكهولم جماعي، نوراستينيا نتيجة التعويض المخاتل والحادّ. كلهم ينفذ أجندة الاستعمار، وكلّ يعمل بلغته، ومن اللغة ما كان رطانة ولحنا.
هل يملك العرب حلاّ غير تعقيد الأزمات؟ هل يعتقدون أنّ الاستفزاز هو الطريق للحلّ؟ هل يعتقدون أنّ الاستهانة بجماعة بشرية يعتبر شطارة؟ البيئة تغلي، وحياتك أن كلمة واحدة قد تحرق المشاعر وتحرك الميل للثأر والعماء، إنه منتهى الغباء استفزاز مشاعر أمّة جريحة.
لا تقلقني القلاقل، بل الذي يقلق هو الاصطفافات التي تنتهي إلى تعقيد المشهد، إلى من يستهين، ثم يربحك جميل حين يقول: نحن لا نقصد كيت وكيت، الخطاب واضح، لقد عبر الفضوليون عن استهانتهم، واستهتارهم، وتطاولهم، وجهلهم، إنّهم زادوا جرحا على جرح.
ليس هناك إلاّ تشجيع على ردود الأفعال، هناك استفزاز ممنهج هدفه فصل جزء من العرب عن العرب، ولكن لكلّ طريقته في المكر، تفعل كلمة السوء ما لا تفعله الحرب نفسها. ذهب الحكماء وبقي الصعاليك. اختلال في منظومة العلّة والمعلول، من لا يقرأ المشهد في كليته، ليس فقط لن يفهم، بل سيسقط في التفاصيل الخادعة أيضا، وهناك في التفاصيل يكمن الشيطان.
يسأل الكثيرون كيف؟ لكن سؤال لماذا لا زال مغيّبا، لأنه مخيف، ويضيع امتيازات كثيرة. وجب أن نسأل: لماذا هذا الجنوح؟ لنتحلّ بمنطق المنطق ومنطق التاريخ، ونحاول أن نفهم، فلا شيء من دون سبب، وطبعا وجب البحث عن الأسباب في الملعب لا في هوس المشجعين في المدرّج.
حين تستهتر بقضايا الأمم، وترسم لها أولويات، وتمنعن في حرف القضايا، فهذا هو أفضل طريق لتكريس الكراهية والاحتقان، فهناك أمة محتقنة، تشعر بالضيم وخيبات الأمل، وهناك من يقفز فوق الرؤوس عابثا بمجدها وكرامتها وعراقتها، حتى الآن لا زال الجريح يخفي ألمه، صابرا جلدا مهذّبا، ولكنه جريح، وأسد جريج.
خلط الأوراق قبيح، استهداف الأمم أقبح، إكراهها على ابتلاع سرديات العدوان، عدوان. الخطاب واضح في تفاهته، التطاول استفزاز، الحرب؟ إن كان لا بدّ منها، فلتكن! ، ولكنها ستكون الحرب الأخيرة، من لا يريد أن يفهم فهو له ذلك، ولكن القاعدة: لا يعذر المرء لجهله القانون. وقانون اللعب معروف، وقواعد الاشتباك معروفة، ومن لغا فلا جمعة له.