تماضر كريم ||
لم تكن صفة القداسة التي التصقت بالحشد ، شيئا عابرا ، و لا اعتباطيا ،
و لم تكن وليدة للحظة حماسة أو اندفاع ، القداسة كانت استحقاقا عاليا ، و محصلة طبيعية مجيدةً للبذل و العطاء ، لأولئك الذين ودًعوا الزوجات و الأولاد ، و تركوا خلفهم الملذات ، تركوا الملابس الأنيقة ، و العيش الهاديء ، الأغاني و الموسيقى و العطور و متعة الخروج للتنزه و التسكع ، تركوا حتى لذة القراءة ، و الزيارات ، و السهر مع الأصحاب ، بعضهم ترك قصص حب مفعمة بالمشاعر ، و الإنتظار و القلق والحلم بنهاية سعيدة ، تركوا كلّ شيء خلف ظهورهم الفتية ، لم يلتفتوا إلى أن سواهم كان ينعم بجميع متعهِ الخاصة و ملذانه و مشاغله ، لم يهتموا كثيرا ، لأنهم في الحقيقة يملكون رؤاهم ذات الأفق غير المحدود ، إنهم ينظرون للسماء لا للأرض .. للنجوم لا للتراب .. للشجر لا للحشائش ، للشمس لا للنوافذ ..
إرتدوا ملابسهم الثقيلة ، و حملوا بنادقهم المحشوة عنفوانا و كبرياء ، و ساروا كما سار الحسين ، قليلين لكن أشداء ، الكهول فيهم فتية ، و الفتية فيهم كبار ، بعيونهم هدف النصر ولا شيء سواه ، النصر أو الرحيل عن عالم القبح و الدناءة ،
كانوا مقدسين أجل ، هنا وهناك ، في جرف النصر ، في الموصل ، في تل عفر ، و تكريت و بيجي و آمرلي و الرمادي و سامراء ، في جبال مكحول ، و الصقلاوية و اللطيفية و جبال سنجار ، في مدينة و ناحية و قرية ، وقعت أسيرة البشاعة و الخراب ، تجدهم هناك يرممون الحياة ، و يفكون القيود ، يعيدون الشمس الغائبة و النجوم المندثرة و الصباحات الخاوية ، و الأشجار الخجولة و الأزهار الذابلة ..
عندما كان الجميع مشغولا بالكتابة عبر مواقع التواصل و النوم و الكثير من الأكل و الكتابة و الإنتقاد و تبادل النكات و الضحك والتحشيش و التسوق و ممارسة الرياضة و سماع الأغاني ، كانوا هم هناك ، ببساطة الأتقياء ، بنبلهم ، ببسالة الذين حملوا الوطن بمدنه و قراه في حدقات عيونهم ، كانوا يتساقطون إلى الأعلى ، واحدا إثر آخر ، لكي يظل هذا التراب نقيا ، و الهواء حرا ، و الماء و الشجر والعصافير ، و تظل منازلنا عامرة ، بكلّ شيء أحببناه و عشقناه ، كانت نجومهم تأفل و يرحلون مكفنين بالرايات ، لكي لا يخبو بريق هذا الوطن الجميل و عبق هذه الأمة الواسعة ،
كانوا ولا زالوا و سيظلون مقدسين ، وفاء للراحلين منهم و للباقين سأعطيهم صوتي ، فقد دافعوا عن كل ما امتلكنا يوما ، و ما سوف يمتلك أولادنا و أحفادنا ، حفظوا الأحلام التي داعبت أجفاننا ، حفظوا قباب الأولياء ، و أرصفة الكتب التي أدمناها ، و عبق التراب بعد المطر ، و ابتسامات الأمهات و أحضانهن ، حفظوا عروق الآباء في أياديهم الكريمة ، و حقول القمح ، و التمر في نخله الأبيّ ، حفظوا وجودنا ، قيمنا ، مبادئنا ، حدودنا ، قوانيننا ، حتى طغياننا الذي سنتهمهم به بعد أن تحط الحرب أوزارها حفظوه ، فقد برز لهم أعداء الجمال ، و أنزلوا صور الشهداء ، أحرقوها ، هاهم يهاجمونهم ليل نهار ، فقد هدأ كلّ شيء ، و ظنوا أنهم يستطيعون ، طيّ صفحتهم ، كأنها لم تكن ، على مدار الساعات ، يبذلون الوقت والمال ، لكي يتوارى عنوان ( الحشد المقدس) ، يقولون مكانه ليس في السياسة ولا على الكراسي ، بل هناك ، بعيدا حيث لا يمكن أن ينافسنا !! لكن بالله عليكم كيف ؟ كيف نخذل من لا نملك سواه حصنا في الشدائد ، مدافعا في الحروب ، باذلا ، كريما ، سخيا ، كيف نستبدله بأولئك الذين اختبئوا خلف عباءات الخوف و الحذر و حب البقاء ؟
كيف تلك الدماء تغدو ترابا ، وهم موضع ثقتنا في السلم و الحرب ؟!
الرخاء والشدة !
أصواتنا لا يستحقها سوى من يكون في الحرب جنديا شريفا أبيا باذلا وفي السلم أمينا عادلا صادقا ..
سوى ذلك لا يستحقها الجبناء و التافهين و المتخاذلين ..