محمد كريم الخاقاني *||
يعد مفهوم دبلوماسية المسار الثاني من المفاهيم الحديثة في مجال العلاقات الدولية، إذ يقصد بها التفاعلات غير الرسمية بين جماعات معينة لها أجندات قد تكون متنازعة مع بعضها، تسعى لتحقيق تأثير معين على الراي العام، وعلى الرغم من شيوع اللجوء الى دبوماسية المسار الأول وهو الأكثر تداولاً وإتساعاً في الوسائل الإعلامية كونه يمثل التفاعلات الرسمية بين حكومات الدول وبصورة علنية والتي غالباَ ما يتم التعبير عنها بتصريحات لقادة ومسؤولي الدول، فأن الحديث عن دبلوماسية المسار الثاني التي برزت بشكل جلي وبارز كمنهج دبلوماسي جديد بتفاعلات غير رسمية وغير حكومية لتفادي الحرج الذي قد تقع فيه الحكومات عندما يتعلق بإجراء محادثات مباشرة وبشكل علني تفادياً لنقمة الرأي العام داخل بلدانها وذلك عندما يتعلق الأمر بتشابك وحساسية بعض المواضيع، او بسبب حدث تأريخي قديم يصعب معه التعامل علانية بين الدولتين، لذا ظهرت دبلوماسية تفاعل الجهات غير الرسمية كالأحزاب والقوى السياسية لتكون نواة محادثات غير مباشرة للحكومات المتضادة في مواقفها العلنية الرسميك، ومن الطبيعي ان لا تكون للدبلوماسية غير الرسمية نفس الوزن التأثيري للمحادثات المباشرة والتي تتمثل بالدبلوماسية الرسمية الصادرة عن الدولة بممثليها المتحدثين بتوجهاتها وواضعي اسس سياساتها الخارجية تجاه غيرها من الدول، ولكنها مع هذا، فأن دبلوماسية المسار الثاني تعطي فرصة للمساهمين فيها من الشخصيات المؤثرة دوراً في حل المشاكل العالقة وكسر جمود الحركة الدبلوماسية لتكون اساس بناء الثقة بين الطرفين والخروج بنتائج مبتكرة تسهم بشكل كبير في التفكير بحلول منطقية وتقرب المسافات بينهما، وهو ما يفسر إنخراط شخصيات كرجال الاعمال واصحاب المصالح المشتركة والرياضيين في تقريب وجهات النظر بين الدولتين لتكون منطلقاَ لمحادثات رسمية مباشرة، وهناك امثلة كثيرة عن تأثير دبلوماسية المسار الثاني في تقريب وجهات النظر المختلفة بين الأطراف المتنازعة كما في إنموذج دبلوماسية (البنغ _ بونغ) التي كانت بداية عودة العلاقات الأمريكية الصينية، إذ تبارى اللاعبون الامريكيون والصينيون فيما بينهم، وتلاها زيارة تاريخية للرئيس الامريكي نيكسون للصين، وكذلك في لقاء الرئيس الامريكي دونالد ترامب مع نظيره الكوري الشمالي كيم جونغ اون في عام ٢٠١٧.
ويرجع الفضل في زيادة تأثير دبلوماسية المسار الثاني الى محدوية دور المسار الرسمي في إدارة النزاعات الدولية، إذ يتم ممارسة الدبلوماسية غير الرسمية بغطاء جهات مختلفة لها دور كبير في تقريب وجهات النظر و إيجاد منافذ حقيقية للحل وصولاً للتمهيد لبدء محادثات رسمية بين الدول، وتعتمد بشكل اساس المشاورات عبر الجمع بين مجموعة من الفصائل التي تشارك بصفة غير رسمية اي بصفتها الشخصية في محاولة منها للحل وعقد الإجتماعات بينها بحضور وسائل الإعلام للتأثير على الرأي العام وتحقيق التفاعل فيما بين الحضور، وهو ما يعزز من فعالية دبلوماسية المسار عبر إشراك منظمات وجمعيات المجتمع المدني في تلك المحادثات والمشاورات، وبذلك هي تسعى الى تسهيل عملية الإتصال وبناء الثقة بين المجتمعات.
ويمكن ملاحظة اللجوء لدبلوماسية المسار الثاني في الآونة الأخيرة بموضوعات البيئة وتغير المناخ والقضايا ذات الإهتمام بالأمن الإنساني العالمي كما حدث في الهجرة الجماعية، إذ استدعى ذلك القيام بادوار متزايدة للجهات غير الرسمية كالاحزاب ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات المؤثرة وغيرها للمساهمة في حل الكثير من القضايا العالقة.
* اكاديمي وباحث في الشأن السياسي.