كوثر العزاوي ||
عِبر العديد من الآيات المباركات الواردة، في أنّ السرّ في وجود الكون إنما هو لخدمة الإنسان، وإنّما استحقّ هذه الخدمة لأنّه أشرف المخلوقات وأكرمها، ولكن ما هي الحكمة من صيرورة الإنسان أشرف وأكرم مَن في الوجود؟! يأتي الجواب قرآنيًا في آية صريحة تُبيّن سرّ وجود الإنسان وفلسفة خِلقته فيقول عزوجل:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات ٥٦
أي"ليعرفونِ"، مؤكدًا ذلك ماورد في العلل عن الصادق "عليه السلام" قال: خرج الحسين بن علي"عليهما السلام"على أصحابه فقال: {أيها الناس، إن الله"جل ذكره"ما خلق العباد إلا ليَعرفوه فإذا عرفوه عبدوه وإذا عبدوه استغنَوا بعبادته عن عبادة من سواه}
فطوبى لمن عرَفَ ربّه فعرف قَدْر نفسه، وطوبى لمن وقف على الحقيقة دون الغفلة، وعاش في فضاء الله ليلاً ونهارًا، مسخِّرًا مَلَكاته في سبيل قربه ومحبته "عزوجل" ليُجذّر انسانيته في عالم الوجود كما يريد الخالق لا المخلوق!
فهي أساس جوهر الوجود البشري وذاته النورانية، التي يكتسبها الأنسان من خلال التربية الصحيحة بالصِّغر، والتي تنمو وتترعرع معه كنبتَةٍ غُرِست في تربة خصبة عديمة الشوائب، تربيةٌ تُقوّي استعداداته الروحية الكامنة في أصل وجوده التي تدعم قدراته الفطرية التي فطر الخالق الناس عليها لاتبديل لخلقه سبحانه، لتُعين الانسان على التُحرر منذ الطفولة، وتُساعده على تنمية مَلَكاته وقابلياته الإيجابية اتجاه الناس، كما تكبح جماح غرائزه السلبية،وتعزّز عنده قدرة التحكّم والسيطرة عليها، فتمنحه زخمًا كبيرًا يُسهِم في بناء كيانٍ قادر على بناء علاقات طبيعية مع الآخرين والتعامل معهم وفق متطلبات المجتمع والمصلحة العامة على اساس مقاييس وضوابط سماوية أمينة، عند ذلك تبرز إنسانية الإنسان كأجمل عامل يدعو الأفراد والمجتمع الى الأمان من شرٍّ مؤكد واقعٍ لامحالة.
فهذه الجوهرة الثمينة -الإنسانية- هي إحدى المزايا التي تُميّز البشر عن سائر الكائنات بمجموعة من الخصال والصفات التي تنمو وتسمو وتُحلّق بالمرء في سماء الفضائل والجمال، من طِيب الريح ومكارم الأخلاق ورفيع الصفات، حتى تصل الى مرحلة الشعور "بوجوب" احترام الجميع وتقديرهم والتمنّي لهم بما يحبه لنفسه ليصبح انعكاسًا عمليًا ومصداقًا لحقيقة {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ}.
فلا حدود لفضاء إنسانية البشر الحقيقية، ولكن سرعان مانرى تلاشي هذه الجوهرة بأقلّ حركة غير مدروسة، فتدْلَهمّ سماء الإنسانية حال انحراف المسار عن المنهج الإنساني القويم ،كسلوكِ سبيل التعصّب مثلًا، أوالتمييز الطبقي، والعنف الاجتماعي والسياسي وفظاظة التعامل وغيره، فهذا إنما يُعَدّ هدرًا لعلوّ مكانة الإنسان المعنوية، وتضييع سموّ مقامه المميّز في عالم الإنسانية!، فالشخص الذي يَخدع ويَكذب ويُنافق ويَحقد ويَغتاب ويَسلك سبيل العنف والتهميش والغدر والقتل بسبب أنانيته وحبّه للجاه والمال والسُّلطة، فلا يضرّ سوى نفسه، وذلك بتخلّيه عما كُتبَ له من علوّ الشأن والمكانة كما أراد الخالق سبحانه له حينما خلقه في أَحْسَنِ تَقْويمٍ، وترك الخيار له ليبقى بأحسن تقويم أو العكس!.
ومن هنا نفهم، أن الانسانية ليست قَدَرا، إنما هي خيارٌ وإرادة أن يكون الإنسان إنسانا أو لا يكون.!
أما متى يعرف الإنسان قيمة نفسه؟!
الجواب: عندما يعرف ويَعي طبيعة خَلْقه ومهمّتهِ في الحياة التي من أجلها خلقه الله، ويفهم دوره الحقيقي الملقى على عاتقه بتكليف شريعةِ السماء وفق القوانين الإلهية
بعيدا عن الأنانية، وحب الذات، والتعصّبات، والتطرف، وكل هذا مرضا خطيرا يصيب الإنسانية، ويجعلها في ظلمانيةٍ تنأى بصاحبها عن الروحانية، لتحجب عنه البصيرة وتسلب منه حياة القلب والروح التي تميّزَ بها، لتراه بعد ذلك كالأرض الجرداء غير صالحة للحياة والغرس، ولاأمل منها بالثمر والعطاء رغم محاولاته التي يحسبها الظمآن ماء.!
٦شعبان١٤٤٣هج
١٠-٣-٢٠٢٢م
ــــــــ
https://telegram.me/buratha