إيمان عبد الرحمن الدشتي ||
تهيأت وأعدت واستعدت زينب بنت علي عليهما السلام بصبر جميل لأمر تكاد السموات يتفطرن منه وتنهد له الجبال الرواسي!
إختلطت مشاعر الحزن وأحاسيس اللوعة مع سنيِّ عُمر زينب الشريف بأيامه وساعاته، ألم من هنا وآهات من هناك، وجع من هنا ودموع من هناك، فقد من هنا وفجيعة من هناك، منذ إرتحال جدها الرسول الأعظم وما جرى على عترته من بعده صلوات الله وسلامه عليه وعليهم، حتى كبرت وصارت بحزنها تلاً زينبيا سار مع الركب في قافلة الإباء إلى كربلاء.
سارت عقيلة بني هاشم محصنة بأوتاد الدنيا وخيام عزتها وقد تجاورت في قلبها أوعية الفخر مع أوعية الخوف والخشية، ولوعورة الطريق! فقد تكسرت الأوعية وأمتزجت محتوياتها وباتت مشاعر زينب صماء لا يُنْطِقُها إلا حسين وعباس.
أناخ الركب في كربلاء، وكفّا الكفيل تفتخران (كما ظهرُهُ الشريف) أن وطأتهما قدما بنت الزهراء سلام الله عليها وعلى أمها، لتنزلاها من محملها المبجل إلى أرض الطفوف، فاستنشقت بنفس عميق حسينها وعباسها والصفوة من بني هاشم علَّها تستطيع أن تحبسهم بين أضلعها!
أشرقت شمس عاشوراء لكنها على غير عادتها! كانت ترتعش، تكاد تسقط من عليائها على أرض الطف لتحرق جيوش الكفر وتبيدهم عن آخرهم، كان الحسين أمير الطفوف؛ تهفو له النفوس المحترمة متسابقة في إفتدائه من سيوف بغاة الأرض، فأسرع الأصحاب للذب دون إمامهم ودون بني هاشم ليُثبتوا أنهم فداء لآل الرسالة، وتقدم بني هاشم قربانُ الحسين الأكبرُ عليٌّ ليُثبت أن القائد العادل شيمته الإيثار فيجود بأغلى ما لديه، وهبَّ بقية الصفوة واحدا تلو الآخر يفتدون إمامهم المظلوم، وظل الحسين رغم جراحاته بفقد كل رجالاته رابط الجأش متحزم بأبي الفضل بطلِ الكتيبة، والعقيلة ناظرة لكل ما جرى ببصرها وقلبها الكبير الصابر!
سار الضيغم أبو الفضل عليه السلام إلى المشرعة ليحمل الماء ويروي به أكبادا حرّى أضناها العطش، غير مكترث بصفوف الأعداء الذين أحاطوه ليمنعوه من الوصول لمقصده، فحصد رقابهم وفرَّ من استطاع الفرار منهم، ووصل المشرعة وملأ القربة ولكن! بغدرهم بانَ الانكسار على وجه الحسين بأبي وأمي، وصرخ الفرات إشهدوا أني لم أجف ولكن ضمائر أعداء آل محمد قد جفت! فقد إنتقل كفيل زينب الى الرفيق الأعلى شهيدا، مفضوخ الرأس قطيع الكفين مطفي العين، فهل هان ذلك على أم المصائب زينب عليها السلام؟!
بقي الحسين عليه السلام وحيدا لا ناصر له ولا معين، فتقدمت إليه عقيلة بني هاشم لتسلمه الوديعة التي أودعتها إياها امهما الزهراء عليها السلام، فشمته في صدره وقبلته في نحره؛ فقد حل أوان الفراق، ثم قدمت له فرس المنية!... وما بعد ذلك أدهى وأمرّ!
تعجز كل الكلمات عن وصف حال أميرة البيت الحيدري من لحظة أن برز أخيها الحسين حتى عودتها إلى مدينة جدها، إذ صُبت عليها الرزايا العظمى! فقد رأت سيد شباب أهل الجنة صريعا على ارض كربلاء مثخن بالضربات والطعنات! رأت شمر الخنا جالس على صدره الشريف مولغ سيفه في نحره وقد حز رأسه من القفا! رأت الخيول الأعوجية كيف طحنت عظامه! حرق الأعداء خيامهم ففر الأيتام والنساء في البراري والنيران بأطراف ثيابهم وتطاردهم السياط فلم يسلموا منها! إمامها السجاد عليه السلام عليل لا يقوى على الحركة، وقد شدوا حبال الأسر والسبى برقبته ويديه فأيادي أفراد الركب المكلوم وانتهاء بيديها! طافوا بهم البراري القفار أياما وليالٍ! أدخلوهم سوقا كثير نُظاره! وشاماً علت وجهه أمارات الفرح والسرور متشفيا وأهله يرمون الحجارة على آل محمد! والأدهى من كل ذلك حين أوقفوا بنت فاطمة الزهراء عليهما السلام في مجلسي إبن مرجانة وحفيد هند آكلة الأكباد عليهما لعائن الله! فهل لمثل زينب المخدرة أن تقف هذا الموقف؟! ولكن شاء الله لها ذلك كي تُسمع العالم ظلامة سيد الشهداء عليه السلام وتخلد ثورته على مر العصور.
عادت الحوراء زينب وباقي الركب في أربعين الحسين إلى كربلاء، يحملون رؤوس الشهداء الطاهرة التي حُملت على الرماح فألحقوها بالاجساد، وقلبها خزانة الألم والحسرة على الحسين وأهل بيته والكفيل الذي لم تعد بكفالته، وعلى قبر ضم جسدا صغيرا في بلاد الشام! وعادوا للمدينة... وهي جبل من الصبر ولكن! الجبل الأشم هذا هوى؛ حين وصل أعتاب ديار الأحبة ولم يسمع لهم صوتا ولم يرى لهم ظلا!
كأني بالعقيلة عليها السلام تسمع صوتا من بعيد قد أتاها بطيّ الزمن، يخاطبها: (عمتي، قطَّعت محنتك قلبي لأكثر من ألف عام، فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن كفالتكِ المقدور، ولم أكن لمن حارب جدي محاربا، ولمن نصب لكم العداوة مناصبا، فلأندبنكِ صباحا ومساء، ولأبكين لكِ بدل الدموع فراتا، علَّني أسقي عطاشى كربلاء، حسرة على الساقي الصريع، وتأسفا على ما دهاكم من بعده، وتلهفاً على صبركِ العظيم رغم كل رزاياكِ، حتى يأذن الله تعالى لي بالفرج لأنتقم من كل جبار فاجر، حينها سأرفع راية بإسم عمي العباس وأخط عليها "يا لثارات زينب")
https://telegram.me/buratha