إنتصار حميد ||
حقوق الإنسان هي مجموعة الحقوق والمطالب واجبة الوفاء لكل البشر على قدم المساواة دونما تمييز بينهم.
وبدءا من معاهدة فيرساي عام 1919م على هامش الحرب العالمية الأولى، مرورا بباقي المعاهدات والاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان؛ حرص العالم على جعل حقوق الإنسان بشقيها: المدنية والسياسية، و الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ جزءا من مقدساته، واحترامها واجب أخلاقي ومعيار للتقدم والرقي.
ونبصر ذلك بشكل أكثر دقة في ديباجة إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي عام 1789م، الذي أخذته عنه ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م، حيث اتفقتا على محورية حقوق الإنسان في النظام الدولي الحديث، ونصتا أن "العالم ما وصل لما وصل إليه من الحروب والاقتتال إلا بسبب عدم احترام حقوق الإنسان".
لذلك وأكثر؛ تمددت تلك الحقوق وتعددت وتشعبت، لتشمل الحق في الحياة بدءا، ثم الحق في التعبير عن الرأي، والعمل، والصحة، والعيش الكريم، والتعليم تاليا.. وتحط الرحال أخيرا بخلق جيل ثالث من أجيال حقوق الإنسان (حقوق التضامن)، أساسه حق الفرد والشعب في التنمية والسلام وبيئة صحية ونظيفة.
تلك الحقوق جردت في مواثيق عديدة تنصيصا وتخصيصا، وحصنت بضمانات أثناء السلم ووقت الحرب، أثمرتها قرون من الاقتتال والنزاع، وهي بحق جهد إنساني قمة في الرقي والتميز، وغاية في تلبية الحاجة ووعي واقع الإنسانية، ومتطلبات الحياة.
لكن الحقيقة التي يثبتها استقراء أزيد من 78 عاما على قيام الأمم المتحدة وإطلاق برامجها الحقوقية، وما يجري اليوم في العالم؛ أن "كل شيء ما خلا الله باطل"، وأنه متى ما لم تكن استعانة بالله فأول ما يجنيه المتصرف على نفسه "ذات اجتهاده".
هذه المسلمة تجاهُلها أصاب سعي العالم نحو المساواة المطلقة والإنصاف؛ في مقتل، وخيب مساعي حثيثة نحو السلم والأمن.
فلم تؤدِّ اتفاقيات لاهاي 1899-1907 ولا جنيف وبروتوكولاتها 1949 -1977-2005؛ هدف حماية الإنسان أثناء النزاعات المسلحة، رغم التحديث المستمر ووجود كيانات قائمة لمتابعة التنفيذ والإقناع بالتصديق.
ولم تحمِ اتفاقية سيداو 1979 المرأة من كل ضروب الاضطهاد، ولم يتمتع أغلب البشرية بما أقر في العهدين الدوليين للحقوق المدينية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966.
استطردْ جردا لكل الاتفاقيات الدولية والإقليمية في مجال حقوق الإنسان، ثم قس ما لم يذكر على ما ذكر؛ تجدْ أن الداء المحارَب رغم الاجتهاد والجهد المبذولين؛ ما يزال مستشريا بل استقحل وتحور، وأن العدالة في العالم اليوم غائبة.
كأنك تشعر أن أساس الأمر مختل، وكلما بحثنا عن خلفيات الاختلال وجدنا عديد الأسباب الموضوعية، ولعل من أدقها؛ تركيز المنظومة الدولية على جانب المساواة في الأداء والبرامج بدل العناية بالعدالة والإنصاف.
والناظر في نتائج تقارير المراكز الدولية المختصة، يجد حقيقة ذلك، حيث تظهر النتائج أن الشعوب بحاجة للعدالة والمساواة معا، وليس للمساواة فقط، وهنا ظهرت مع النظام الدولي مشكلة البشر الأصيلة، مع الاعتداد بالعقل الصرف والدكتاتورية المفاهيمية، فحضر اللا استثناء في التقعيد، وهو ما ترفضه الفطرة وتأباه طبيعة المجتمعات الإنسانية.
فظلت المعاهدات عصية على التطبيق، والمجتمعات بين مُفْرط في الاهتمام بالحقوق ومُفرط. ولا نموذج ثابتَ أو عينة محددة موضوعة للتقليد ومحل اتفاق، فقط الكل حر من أجل الحرية.
حتى باتت الحرية عامل شرعنة لتقييد الحرية، كما نشاهد اليوم في القضية الروسية الأوكرانية. و في تسَلط القوى الاقتصادية العالمية تجاه الشعوب الضعيفة، بدواعي التدخل الإنساني وحماية الديمقراطية، السلم والأمن الدوليين..
هذه العدالة المفقودة -كهدف سام لذاته- بجلاء في نصوص المعاهدات الدولية -كما أشرت- موجودة تقعيدا ونشدانا في نصوص الشرع الإسلامي بوفرة ودقة بالغة.
حيث أقر الشارع المطلق -سبحانه- عدالة مجزية في كل المجالات، بحيث تحترم الحق وتحدد المسافات وتراعي الفوارق من غير ظلم ولا جور، معبرٌ عنها: "بإعطاء الحق لأهله وافيًا غير منقوص في قليل أو كثير، وعدم نقصانه أو زيادته على حساب الغير".
وبينما اقتصرت معاهدات واتفاقيات حقوق الإنسان الدولية على إيراد العدالة في مجالات: التقاضي، وتوزيع الثروات، والولوج للخدمات، والمشاركة في الحكم وما شاكلها من مناح؛ أوردت الشريعة الإسلامية العدالة بمفهوم أشمل وأعم، وأكثر جوهرية في المعاملات والأحكام، ورسمته في مجالات عديدة منها ما ذكرت المعاهدات، ومنها على وجه التخصص استحداثا وعنايةً: العدالة الجزائية، والاجتماعية، والقضائية، و الشخصية، أي تلك المتعلقة بالأحوال الشخصية. كما أكثر دقة وجودة تنصيص في تلك المناحي التي اشتركتها والنصوص الدولية.
وحكمة الشارع سبحانه وتعالى؛ اقتضت أن هذه العدالة تُنزل خطوطها العريضة للبشر، في كل مجال، ويترك لهم وضع ما يناسب واقعهم من إجراءات تلائم حالهم، وتحقق مقصد الشارع من إنزال الحكم، لذلك وجدت في الشرع ثوابت ومتغيرات؛ الأولى غير قابلة للمساس، والثانية بنيت وأسست "على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر".
ومن عنايتها بالعدالة أنْ أجملت الشريعة الإسلامية كل بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(30 مادة) وميثاق الأمم المتحدة(111 مادة) المتعلقة بحقوق الإنسان؛ في كليات خمس، عنيت الشريعة الإسلامية بحمايتها ورعايتها وأوجبت حفظها، قال سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم رحمه الله في كتابه مراقي السعود:
دينٌ فنفسٌ ثم عقلٌ نسبُ * مالٌ؛ إلى ضرورةٍ تنتسبُ
ورتِّبنْ، ولتعطفنْ مُساويا * عِرْضا على المال، تكُنْ مُوافيا
فهذه الكليات الخمس؛ اختزلت كل محاور المعاهدات والاتفاقيات الدولية الأساسية في مجال حقوق الإنسان، بدقة عالية وبراعة منقطعة النظير.
واستخلاصا من العرض أعلاه؛ فإن بيد المسلمين من العلاج لواقع حقوق الإنسان في بلدانهم ما ليس بأدي غيرهم، فقد كُفوا إلهيا مؤنة تحديد مكامن الاختلال عند المجتمعات، وطرق العلاج وكيفيته، وأسس البرامج العدلية المحكمة، ومكنوا من العلاج تمكيناً وذاك بأدق أسلوب وأبلغ تعبير ووفق أحكم الآليات.
كما كفوا بالنصوص الوضعية مؤنة التفكير في الاستراتيجيات الآنية المستوعبة للواقع، وفقط تحتاج تلك الآليات تهذيبا وتصحيحا لمحال الاختلال ليعمل بها، وفي نصوص الشرع وأحكامه أداة تحقيق كل ذلك وكفاية.
ولعل ما يجري اليوم في العالم يوضح لدولنا المسلمة وشعوبها وللقارئ الكريم، حقيقة النظام الدولي القائم، وصدق ما تقدم أعلاه، وضرورة العودة إلى منهج الله ورسوله مراعاة للمصلحة ودرءا للمفسدة.
ــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha