بقلم : عبود مزهر الكرخي
يحل علينا شهر فضيل وكريم وهو شهر رمضان الذي دعانا الله فيه ضيافته والاستزادة من تلك الضيافة والتي في ضيافة أكرم الأكرمين وهو الله سبحانه وتعالى وقد أشار إلى ذلك نبينا الأكرم محمد(ص) في خطبة طويلة للمسلمين عن دخول شهر رمضان الكريم فيقول في جزء منها ((أيها الناس انه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة ، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاءكم فيه مستجاب.فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة ان يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فان الشقي كل الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم...)).
وهذه الضيافة العزيزة والكريمة على كل مؤمن ومؤمنة تتطلب أن يسارع إليها المؤمنين لأن ضيافة تعد فيها موائد الرحمن الكريم وهي ليست موائد للأكل والإفطار بل موائد رحمانية يتم فيها نشر رحمة الله الواسعة على عباده والذي يثيب فيها عباده الذين يصومون ويقومون في هذا بصيامه وقيامه وأعماله على خير وأحسن وجه والذي يجازي عباده المتقون والذي يقول في حديثه القدسي الشريف ((كل عمل ابن آدم له ، إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به)).
وهذا الشهر شهرٌ كريم الذي نكون في ضيافة جل وعلا، شهرٌ فضله الله تعالى على بقية الشهور وسماه شهر الله وهو الذي فيه تتجلى فيه أسمى آيات العبادة والتجلي والتضرع لله جل وعلا وفيه تفتح أبواب الإجابة حيث تكون فيه الدعوات مستجابة وتفتح أبواب الجنة من الذين تعتق رقابهم من النار وتغلق فيه أبواب النار وتصفد فيه الشياطين وتصب رحمة رب العباد على الخلائق أكراماً لهذا الشهر العظيم شهر الرحمة والمغفرة.
فحري بعبادنا المؤمنين أن ينتهزوا هذه الفرصة والاستباق في طلب العفو والمغفرة والاستيراد من هذا الشهر الفضيل شهر الخير والبركة.
ومن هنا يجب أن نقبل على مائدة الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر الكريم لكي نستزيد منها ونأخذ جوائزنا المعدة من قبله في مغفرته ورضوانه وعتق رقابنا من النار ففي الالتزام بأحكام الصوم والتأدب في هذا الشهر المبارك شهر الخير والرحمة والبركة وأن تكون إعمالنا وأوردانا كلها ورداً واحداً وأن نجازى عليها أوفر الجزاء بعمل أعمال شهر رمضان والمستحبات وأن نكون من أحسن عبيده الذين ينظر الله إليهم فيقول ويتباهى بهم أمام ملائكته ويقول(( أنهم أمرتهم بعبادتي وصوم شهري فاستجابوا وأطاعوني وأني قد غفرت لهم وعتقت رقابهم من النار)).
وهذه العبادة الروحية والمعنى الروحي لشهر رمضان وليس هو شهر فقط يتم الامتناع فيه عن الأكل والشراب وتحمل الجوع والعطش ولا يتم تأدية العبادات التي فرضها الله علينا والتقرب منه لكي يتم بذلك زيادة الأيمان وتعميقه في أرواحنا ونفوسنا لكي نكون في مواجهة إغراءات وأهواء الدنيا الفانية وما يوسوس الشيطان لإغوائنا والتي تمثل أحسن مصدات نفسيه لعدم المعصية والوقوع في حبائل الشيطان وإغراءته .
وهناك الكثير من الأمور التي تقربنا زلفى إلى رب العز والجلالة الذي لو تقربت منه خطوة فأنه يتقرب منك ملايين الأميال والذي يحب العبد المؤمن المتذلل بين يدي رحمته لكي ينال رضاها فالصوم ليس فقط الامتناع عن الأكل والشرب كما ذكرنا آنفاً بل هناك المفهوم الروحي لهذا الصوم الذي تكون النفس خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى فكثير من الصائمين لا يزيدهم إلا الجوع والعطش ولكن نحن وحسب ماتعلمناه من نبينا الأكرم ومن أئمتنا (سلام الله عليهم أجمعين) في الضرورة التقرب إلى الله وحصد الجوائز التي يوزعها في هذا الشهر الشريف في غفران الذنوب وعتق الرقاب من النار وأن تجعل أعمالنا كلها خالصة لوجه الله عز وجل.
من هنا برزت في مذهب أهل البيت الأعمال المستحبة والمكروهة في هذا الشهر والتي تعتبر من الأمور الأساسية في صيام هذا الشهر الفضيل والتي سنمر عليها الآنالمستحبات :
يقول نبي الرحمة محمد(ص) في خطبته ((واذكروا، في جوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ،ووقروا كباركم،وارحموا صغاركم،وصلوا أرحامكم،واحفظوا ألسنتكم،وغضوا عما لا يحل النظر إليه إبصاركم وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم،وتحننوا على أيتام الناس ،يُتحنن على أيتامكم ،وتوبوا إليه من ذنوبكم ،وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنها أفضل الساعات،ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده،يجيبهم إذا ناجوه،ويلبيهم إذا نادوه،ويستجيب لهم إذا دعوه))
أن هذه الخطبة العظيمة لخاتم الأنبياء تدلل على عظمة ديننا الذي يركز على النواحي الأخلاقية ومكارمها في صومنا وفي كل مناحي ديننا الحنيف فالمسلم الحقيقي وصيامه من سلمت جوارحه ولسانه وهنا يبدأ كما ذكرت سابقاً بالجهاد الأكبر وهو جهاد النفس فهنا يجب التأكيد على بعض الأمور المخصوصة في رمضان والتي بها يكتمل صيامه وقبول أعمال وسوف نذكرها بنقاط :
1 ـ بر الوالدين
2 ـ صلة الرحم
وهي من الأمور المهمة التي يعني مع أخيك وأختك وقراباتك وجارك وفي يومنا شائعة مسألة القطيعة ومع الأسف منتشرة مع كل الذين ذكرتهم سلفاً وترى قطع الرحم واردة وبشكل لا يعقل ولا يصدق.
وبعد هذه المقدمة لنعرف ما هو شهر رمضان الذي هو شهر الفرقان والذي ذكره في محكم كتابه عن هذا الشهر الفضيل بقوله {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.(1)
ومن هنا كان شهر رمضان هو يوصف بشهر الفرقان والذي هو في يعني في منزلة القرآن الكريم والذي في مبحثنا هذا سوف نستزيد عن ماهية وصف شهر رمضان الفضيل بشهر الفرقان كي نفهم عظمة هذا الشهر ونزداد قرباً إلى الله سبحانه وتعالى.
ولنأتي ونعرف ماهية تسمية القرأن الكريم بالفرقان ومنها نعرف معنى الفرقان.
سبب تسمية القرآن الكريم بالفرقان :
ما الفرق بين القرآن و الفرقان ؟
للفرقان معانٍ متعددة في القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة نذكر أهمها :
المعنى الأول : مجموع القرآن الكريم ، كما في قول الله جَلَّ جَلاله : ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾.(2)سُمِّيَ القرآن الكريم بالفرقان لسببين :
السبب الأول : لنزول آياته و سوره بصورة متفرقة ، و بشكل مغاير لغيره من الكتب السماوية التي أنزلها الله عَزَّ و جَلَّ على أنبيائه ( عليهم السلام ) ، و ذلك لأن الكتب السماوية الأخرى أنزلت كل واحدة منها دفعة واحدة مكتوبة في الألواح و الأوراق ، أما القرآن الكريم فلم يُنزَل كذلك و إنما تم تنزيله خلال عشرين عاماً على قلب الرسول المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) وحياً ، و لم ينزل مكتوباً و مجموعاً كغيره من الكتب السماوية ، فعَنْ يَزِيدَ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) ، فَقَالَ : لِمَ سُمِّيَ الْفُرْقَانُ فُرْقَاناً ؟
قَالَ : " لِأَنَّهُ مُتَفَرِّقُ الْآيَاتِ وَ السُّوَرِ ، أُنْزِلَتْ فِي غَيْرِ الْأَلْوَاحِ ، وَ غَيْرُهُ مِنَ الصُّحُفِ وَ التَّوْرَاةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الزَّبُورِ أُنْزِلَتْ كُلُّهَا جُمْلَةً فِي الْأَلْوَاحِ وَ الْوَرَقِ " .(3)
السبب الثاني : لأنه كتاب يميِّز بين الحق و الباطل ، قال العلامة الطبرسي ( رحمه الله ) : " سُمِيَ بذلك لأنه يُفَرِّقُ بين الحق و الباطل بأدلته الدَّالة على صحة الحق و بطلان الباطل " .(4)
و قال العلامة المجلسي ( رحمه الله ) : " الْفُرْقانَ : أي الكتاب الجامع لكونه فارقاً بين الحق و الباطل ، و ضياءً يُستضاء به في ظلمات الحيرة و الجهالة ، و ذِكرا يتَّعظ به المتقون ".(5)
و قال العلامة الطريحي ( رحمه الله ) : " الفرقان : القرآن ، و كل ما فُرِّقَ به بين الحق و الباطل فهو فرقان " (6) ، كما في قول الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ (7) ، و كذلك في قوله جَلَّ جَلالُه : ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ﴾.(8)
المعنى الثاني : المراد بالفرقان الآيات المحكمات (9)، و هو معنى أخص من المعنى الأول ، فقد سُئلَ الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) عَنِ الْقُرْآنِ وَ الْفُرْقَانِ أَ هُمَا شَيْئَانِ أَوْ شَيْءٌ وَاحِدٌ ؟
فَقَالَ ( عليه السَّلام ) : " الْقُرْآنُ جُمْلَةُ الْكِتَابِ ، وَ الْفُرْقَانُ الْمُحْكَمُ الْوَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ ".(10)
فشهر رمضان: هو شهر الله.... و صوم الإنسان لله عز وجل ، كما في الحديث القدسي الذي ذكرناه آنفاً : (الصوم لي و إنا أجزي به). و هو شهر الصلاة و الطهارة و النزاهة و القداسة و التقوى.
شهر رمضان شهر القرآن، و شهر شرفّه الله ، فانزل فيه القرآن- الذي هو بيان لكل شيء- و ولهذا فهو نزل فيه الفرقان والقرآن هو الذي يميز بين الحق والباطل وهو تبيان لكل شيء ومن هنا فضّل الله شهر رمضان على سائر الشهور، فأيامه أفضل الأيام، و لياليه أفضل الليالي، و ساعاته أفضل الساعات، و خصّه الله بلية القدر، التي هي خير من إلف شهر.
هذا الشهر المبارك هو مناسبة عظيمة يعيش فيها الإنسان المسلم إسلامه حقيقية، و بكل معنى الكلمة، لان الشياطين فيه مغلولة، و الإعمال مقبولة و الأجر و الثواب مضاعف للعاملين..
هذا الشهر العظيم هو من ميّزات الدين الإسلامي الحنيف، و الأمة الإسلامية المرحومة...إذ الأنفاس فيه تسبيح و ذكر، و النوم فيه عبادة وطاعة، و هذا ما لم تنعم فيه أية امة على الإطلاق..
و هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «هو شهر الصبر.. و شهر المواساة... أوله رحمة، و أوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار».(11)
وفي جزئنا القادم سنكمل إن شاء الله معنى شهر رمضان وما يحمل من قيم روحية إنسانية إن كان لنا في العمر بقية ليود الإنسان أن تكون كل أشهر السمة رمضان لما يحمله من قيم سامية وعظيمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1 ـ [البقرة : 185]2 ـ [سورة الفرقان : 1].3 ـ علل الشرايع : 2 / 470 ، و عنه في بحار الأنوار : 9 / 304 .4 ـ مجمع البيان : 1 / 14 .5 ـ بحار الأنوار : 67 / 340 .6 ـ مجمع البحرين : 5 / 224 .7 ـ [البقرة : 53 ] .8 ـ [الأنبياء : 48 ] .9 ـ المُحْكَم : و يقابله المتشابه ، مصطلح قرآني يطلق على ما اتضح معناه و ظهر لكل عارف باللغة ، و على ما كان محفوظا من النسخ أو التخصيص ، أو منهما معا ، و على ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً ، و كل آية من آيات الذكر الحكيم كانت كذلك فهي آية محكمة ، و تُرد الآيات المتشابهة إلى الآيات المحكمة لفهمها .لمزيد من المعلومات عن المحكم و المتشابه يمكنك الرجوع إلى : الفروق اللغوية : 424 ، مجمع البحرين : 6 / 43 .10 ـ الكافي : 2 / 630 ، و لمزيد من المعلومات بخصوص معاني " الفرقان " يمكنك مراجعة : الفروق اللغوية : 424 .11 ـ موقع الشيرزاي. في رحاب شهر رمضان . الرابطhttp://www.s-alshirazi.com/monasebat/09-ramazan/ramazan/01.htm
https://telegram.me/buratha