دلّل الامام أبو جعفر الجواد عليه السلام بمواهبه وعبقرياته، وملكاته العلمية الهائلة التي لا تُحدّ على الواقع المشرق الذي تذهب اليه الشيعة الامامية من أن الامام لابد أن يكون أعلم أهل زمانه وأفضلهم من دون فرق بين أن يكون صغيراً أو كبيراً، فان الله أمدّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بالعلم والحكمة وفصل الخطاب كما أمدَّ أُولي العزم من أنبيائه ورسله.
الامام الجواد (ع) الذي نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده المؤلم والمفجع، من أروع صور الفكر والعلم في الاسلام فقد حوى فضائل الدنيا ومكارمها، وفجر ينابيع الحكمة والعلم في الأرض، فكان المعلّم والرائد للنهضة العلمية، والثقافية في عصره، وقد أقبل عليه العلماء والفقهاء، ورواة الحديث، وطلبة الحكمة والمعارف، وهم ينتهلون من نمير علومه وآدابه.
برهن الامام (ع) على ذلك بعد أن تقلّد الامامة والزعامة الدينية بعد وفاة أبيه الامام الرضا (ع) وكان عمره الشريف لا يتجاوز السبع سنين، وعاش حياته متجهاً صوب العلم فرفع مناره، وأرسى أصوله وقواعده، فأستغل مدّة حياته في التدريس ونشر المعارف والآداب الاسلامية وقد احتفّ به جمهور كبير من العلماء والرواة وهم يأخذون منه العلوم الإسلامية من علم الكلام والفلسفة، وعلم الفقه، والتفسير.
أنفتح الامام الجواد (ع) على خطِّ الامامة مبكراً، وصدق عليه ما صدق على يحيى (ع) في نبوّته {واتَيْناهُ الحُكْمَ صبيّاً} سورة مريم - الآية:12، وعاش بعد وفاة أبيه الامام علي بن موسى الرضا(ع) مسؤولية الامامة، حيث يمكننا أن نسميه بـ"الامام المعجزة"، لأن إمامته انفتحت على كل الواقع وهو بعد في سن الصبا، حيث حير العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته، كان إمتحان ألهي للأمة بمدى تمسكها بإيمانها بالدين الحنيف وإلتزامها بوصايا خاتم المرسلين (ص)
التفاف الأمة حول أئمة أهل بيت الرسالة والامامة عليهم السلام وأتباعهم الخلص، من أهم أسباب معاداة بني أمية وبني العباس وسائر الطغاة منذ سقيفة بني ساعدة حتى يومنا هذا حيث الحقد والكراهية والظلم والطغيان والفرعنة والجبروت والإجرام وسفك الدماء وإنتهاك المحرمات، متفشي في ربوع العالم الاسلامي خاصة في اليمن وسوريا والعراق والبحرين والسعودية وليبيا وغيرها خير دليل.
فقد روى عنه جمعٌ من العلماء، حيث عددهم السيد الأمين رحمه الله نقلا عن الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وكذلك في المناقب: كان بوّابه عثمان بن سعيد السمّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعلي بن محمد، وهارون بن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري (في رحاب أئمة أهل البيت، ج:4، ص:169 ـ 170).
كما ان الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) عَدَّ نحو مِائة من الثقات، ومنهم امرأتان، كلّهم من تلامذة الامام محمد الجواد (ع) ورُوَاته، والذين تتلمذوا على يديه المباركتين (بحار الأنوار، ج:5، ص:55)؛ وصنَّفوا في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية ، وسنذكر - على سبيل المثال لا الحصر - بعضاً من أصحابه ( عليه السلام ) الذين روى علماء الرجال والمحققون عنهم :
1 - أحمد بن محمد بن خالد البرقي: صنّف كتباً كثيرة، بَلَغت أكثر من تسعين كتاباً .
2 - علي بن مهزيار الأهوازي: له أكثر من ثلاثة وثلاثين كتاباً .
3 - صفوان بن يحيى : يقول الشيخ الطوسي : له كتب كثيرة ، وله مسائل عن الإمام الكاظم (ع).
4 - أحمد بن محمد بن أبي نصر : كان عظيم المنزلة ، له كتاب (الجامع) ، وكتاب (النوادر) .
لمّا أستوى المعتصم العباسي على الملك، وسمع فضائل ومناقب الامام الجواد (ع)، وبلغه غزارة عِلمه، اضطرمت نار الحسد في قلبه، وصمّم القضاء على الامام الجواد عليه السلام فاستدعاه الى بغداد، وعقدت جريمة الاغتيال في اتفاق ثلاثي بين المعتصم العباسي، وأبن أخيه جعفر، وأم الفضل (زوجة الامام الجواد)، للتخلّص منه بعد قدومه الى بغداد حيث أستُدعِي (ع) لهذا الغَرَض. ويقول المؤرخ علي بن الحسين المسعودي : "وجعلوا - المعتصم بن هارون، وجعفر بن المأمون ، وأخته أم الفضل - سُمّاً في شيء من عنب رازقي ، وكان يعجب الامام الجواد (ع) العنب الرازقي ، فلمَّا أكلَ(ع) منه نَدمَتْ ، وجعَلَتْ تبكي .
فقال (ع) لها: ( مَا بُكَاؤك ؟!!، والله لَيَضربنَّكِ اللهُ بِفَقر لا يَنجَبِر، وبَلاء لا يَنْسَتِر ). فَبُليت بِعِلَّة في أغمض المواضع من جوارحها ، وصارت ناسوراً ينتقض عليها في كلِّ وقت. فأنْفَقَت مالها، وجميع ملكها على تلك العِلَّة، حتى احتاجت الى رفد الناس.
وتردَّى جعفر في بئر فَأُخرِج ميتاً ، وكانَ سكراناً (إثبات الوصية: ص219).
وقال أبن بابويه.. "سمه المعتصم العباسي لعنه الله تعالى حيث قبض ببغداد مسموما في آخر ذي القعدة وقيل يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين ودفن في مقابر قريش الى جنب جده موسى بن جعفر عليه السلام في الكاظمية في العراق. وقال عنه الرضا عليه السلام يقتل ولدي هذا غصبا فيبكي له وعليه أهل السماء ويغضب الله على عدوه وظالمة فلا يلبث إلا يسيرا حتى يعجل الله به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد"(بحار اْنوار52:86).
https://telegram.me/buratha