رشيد علي (منتظرون ٤): هل يوجد روايه عندنا بنقل الحوزة من النجف الأشرف إلى قم المقدسه قبل الظهور الشريف وهل حصلت هذه العلامة ام لا ؟
الجواب: نعم هناك رواية ذكرها صاحب البحار عن تاريخ قم لمؤلفه الحسن بن محمد بن الحسن القمي باسناده الى الامام الصادق عليه السلام انه قال: ستخلو كوفة من المؤمنين ويأزر عنها العلم كما تأزر الحية في جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدنا للعلم والفضل حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى المخدرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل الله قم وأهله قائمين مقام الحجة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها ولم يبق في الأرض حجة، فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فيتم حجة الله على الخلق حتى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم، ثم يظهر القائم عليه السلام ويسير سببا لنقمة الله وسخطه على العباد، لان الله لا ينتقم من العباد إلا بعد إنكارهم حجة . بحار الانوار ٥٧: ٢١٣.
وكلمة يأزر في الرواية - والتي تعني التقوية والإشتداد - يبدو لي أنها مصحفة من الناسخ من كلمة يأرز وهي بمعنى الإنقباض والتجمع والإختفاء، كما تجمع الكف الى داخلها فيختفي ما بداخلها، وهو بهذا يتفق مع سياق الرواية، وكذا يتفق من حيث أصل إختفاء العلم وإنزوائه لا تفصيله مع رواية مشايخ الطائفة الكليني والنعماني والصدوق رحمهم الله جميعاً، عن أبان بن تغلب رضوان الله عليه، عن الإمام الصادق عليه السلام، فلقد روى الشيخ الكليني قدست أسراره في كتاب الكافي عن صادق آل محمد صلوات الله عليه أنه قال: كيف أنت إذا وقعت البطشة بين المسجدين، فيأرز العلم كما تأرز الحية في جحرها، واختلفت الشيعة وسمى بعضه بعضا كذابين، وتفل بعضهم في وجوه بعض؟ قلت: جعلت فداك ما عند ذلك من خير، فقال لي: الخير كله عند ذلك، ثلاثا.
الكافي ١: ٣٤٠ ب١٣٨ ح١٧، ونقلها في غيبة النعماني: ١٦٣ ذيل ب١٠ ح٧ عنه.
وفي هذه الرواية يشار الى إختفاء العلم وإنزوائه فحسب دون الإشارة الى إنتقاله، وتعلل عملية الإختفاء والإنزواء نتيجة ظلم وشدة - وهي المراد من البطشة - تقع بين المسجدين، والظاهر أن المراد بالمسجدين هما السهلة والكوفة، لأن منطقة الكوفة هي الوحيدة التي تصلح كي تكون حاضرة علمية تهمّ أهل البيت عليهم السلام، بالشكل الذي يشار الى إنحسار العلم عنها، وعندئذ يمكن أن نرى تناسقا مع أحد مفردات الرواية الأولى - وأعني إنزواء العلم من الكوفة- وهي كما هو واضح لم تشخّص إلى أين يكون مصير أهل العلم وموضعه حينما يأزر، وإنما تكتفي بالإشارة الى الظاهرة دون أن تدخل في تفاصيلها، فتأتي الرواية الأولى لتكشف النقاب عن هذا الموضع، ولذلك يمكن أن نقول بأن الرواية الاولى رغم أنها من الآحاد غير أن شاهدها في رواية أبان بن تغلب يعززها، وبالتالي تكون الرواية كالمكملة لرواية ابن تغلب، وكاشفة عما سكتت عنه هذه الرواية.
وفي رواية أخرى ذكرها الشيخ النعماني بطريق آخر عن أبان بن تغلب أيضاً، نلاحظ فيها اختلافاً في اللفظ الرواية عما كان عليه لفظها في الكافي قال: كيف أنتم إذا وقعت السبطة بين المسجدين، فيأرز العلم فيها كما تأرز الحية في جحرها، واختلفت الشيعة بينهم، وسمى بعضهم بعضا كذابين، ويتفل بعضهم في وجوه بعض؟
فقلت: ما عند ذلك من خير؟ قال: الخير كله عند ذلك - يقوله ثلاثا ويريد قرب الفرج.
انظر غيبة النعماني: ١٦٢-١٦٣ ذيل باب ١٠ ح٧.
ومن البيّن هنا ان اللفظ اختلف عما هو الحال في رواية ابان في الكافي والتي رواها النعماني ايضاً، إذ نرى هنا أن البطشة تحولت الى السبطة، وفي خاتمتها جرى تفسير من الراوي او ممن روى عنه بان المراد بوصف الاختلاف بانه خير كله هو تحقق الفرج، ولعله من المستبعد ان نقول ان كلمة البطشة في الرواية السابقة صحفت هنا الى السبطة، لاننا سنجد ان النعماني سيفسر السبطة في رواية ثالثة وردت أيضا عن أبان بن تغلب ولكن بطريق اخر جاء فيها: يأتي على الناس زمان يصيبهم فيها سبطة يأرز العلم فيها كما تأرز الحية في جحرها، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم نجم، قلت: فما السبطة؟
قال: الفترة.
قلت: فكيف نصنع فيما بين ذلك؟
فقال: كونوا على ما أنتم عليه حتى يطلع الله لكم نجمكم.
غيبة النعماني: ١٦٢ ذيل باب ١٠ ح٦.
وهنا تم توضيح المراد بالسبطة، غير ان الرواية هنا لم تذكر موضع أرز العلم ولا أين يبرز بعد ذلك؟ مع توضيح مهم للغاية يتعلق بطبيعة التكليف حينما تتم حادثة أرز العلم، لأن أرز العلم أمر متعلق بالعلماء ومن يتدرج في طريقهم، ولكن ثمة قاعدة تتطلع الى نتاج العالم وترتبط به ارتباط من لا علم له بمن لديه هذا العلم، عملاً بقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ولذلك يسأل أبان الإمام الصادق عليه السلام عن التكليف في حال فقد العالم او غاب او ابتعد او عسر التواصل معه وسؤاله، فكان جوابه بما ورد في خاتمة هذه الرواية.
هذا وقد ذكر النعماني رواية رابعة عن أبان أيضاً ولكن بطريق مختلف عما سبق، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال:يا أبان، يصيب العالم سبطة يأرز العلم بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها. قلت: فما السبطة؟
قال: دون الفترة، فبينما هم كذلك إذ طلع لهم نجمهم. فقلت: جعلت فداك، فكيف نصنع؟ وكيف يكون ما بين ذلك؟
فقال لي: ما أنتم عليه حتى يأتيكم الله بصاحبها .
غيبة النعماني: ١٦٣ ذيل ب١٠ ح٨.
وفي هذا اللفظ نجد جمعاً بين مؤديات الروايات، إذ عاد ذكر المسجدين، ومع انه ذكر السبطة بأنها دون الفترة، غير ان واقع الحال يريد المدة الوجيزة، فلا تعارض، واستبدال النجم بالصاحب يؤدي نفس المؤدى، وربما كان الاختلاف من لفظ الراوي أو من روى عنه.
وقد تفردت الرواية التي ذكرها الشيخ الصدوق رحمه الله باختلاف عن السياق العام للروايات التي وردت عن ابان في هذا المجال، فقد نقل باسناده عن أبان بن تغلب قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يأتي على الناس زمان يصيبهم فيه سبطة يأرز العلم فيها بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها، يعني بين مكة والمدينة، فبينما هم كذلك إذ أطلع الله عز وجل لهم نجمهم، قال: قلت: وما السبطة؟ قال: الفترة والغيبة لإمامكم، قال: قلت: فكيف نصنع فيما بين ذلك؟ فقال: كونوا على ما أنتم عليه حتى يطلع الله لكم نجمكم.
كمال الدين وتمام النعمة: ٣٧٧ ب٣٣ ح٤١
فقد جاء هنا تعريف للمسجدين بما يتفق مع تعريفات العامة، ولا يتفق مع السياق العام لروايات علامات الظهور الشريف التي ركزت على المجتمعات الموالية اثناء الحديث عن مثل هذه الامور، فالعلم الذي يتحدث عنه الامام صلوات الله عليه هو علم أهل بيت النبوة، وتخصيصه بما بين مكة والمدينة لا يتناسب واعتبار هذه المناطق من المناطق المخالفة لهم والعاملة ضدهم في الوقت الذي أشارت إليه الرواية وهو وقت ما قبل الظهور بفترة وجيزة، ولا يفيدنا الواقع بشيء من ذلك كتصديق إذ ما عرف لأهل الحجاز في مكة أو المدينة ما يمكن أن يعنونون بعنوان الحاضرة العلمية التي يستدعي ذهاب العلم منها أن يجري ذكرها في روايات أهل البيت عليهم السلام بالطريقة التي سلفت، وكما كان في السابق لا زال الوضع الحالي ينتج واجهات علمية مسخرة ضد أهل البيت عليهم السلام، وإن كنت اعتقد أن العبارة التي وردت في رواية الشيخ الصدوق بهذا الخصوص لا علاقة لها بنص المعصوم صلوات الله عليه، وإنما هي من إضافات النساخ أو الشراح وأدخلتها عملية النسخ وكأنها من أصل النص، وذلك يتأكد من خلال نص أبان المأخوذ من كتابه والذي أورده الكليني والنعماني حيث خلا من هذا التعريف.
وكذلك يلاحظ على هذا النص ان تعريف الفترة فيه اضافات لم تشتمل عليها ألفاظ الرواية المتعددة - وأعني بذلك قوله (والغيبة لإمامكم) - فالعبارة مربكة لروح النص ولما توحي به كلمة الفترة، فالكلمة تعني المدة الوجيزة غير المديدة، بينما الحديث عن الغيبة يذهب بعكس الاتجاه، ولا يبقي للفترة معنى، واعتقد ان هذه العبارة أيضاً هي من اضافات النساخ والشراح ولا علاقة لها بأصل النص، وهو أمر سبق أن نوهنا عن مثيله أثناء الحديث عن إضافة كلمة من اليمن عقب الحديث عن اليماني في رواية نقلها مرتين خلت واحدة من هذه الاضافة وحوت الثانيةعلى هذه الاضافة، مع ان من رووا عن الشيخ الصدوق روايته هذه ذكروها بدون اضافة، والله العالم.
على أي حال يمكن جمع الروايات واستخلاصها بالقول أن ظلماً شديداً يحصل في الكوفة كمنطقة، يؤدي إلى تقليص الحضور العلمي فيها، وهذا التقليص يأتي في العادة من خلال قتل العلماء أو اعتقالهم أو احتباسهم في بيوتهم أو هجرتهم من ديارها أو تشريدهم منها، بالشكل الذي يوقف الحراك العلمي فيها، هذا إذا قلنا بأن لفظ الرواية هو البطشة وليس السبطة، أما إذا نظرنا الى لفظ السبطة، فهو يعني أن العلم لن يختفي كلياً وإنما يحصل في حضوره الاجتماعي فتوراً وبروداً، بصورة تتعطل فيه أغلب مصاديق هذا الحضور وتنزوي، والتعطيل هذا يمكن أن يكون في كل الحالات التي أشرنا إليها، لأن الإنزواء لابد من أن تكون له علّةتسببه، وماذكرناه من احتمالات في هذا المجال هي الاحتمالات الطبيعية، لأن العالم لا يغلق بابه ويعطل حراكه العلمي في الظرف الطبيعي ما لم يكون للظرف القاهر والاستثنائي دوره الأساس على هذا الصعيد.
وقد وضعت كل الروايات التي أوردناها عملية الإنزواء العلمي هذه في الفترة القريبة من الظهور الشريف، واعتبرت ذلك علامة عليه، ولكنها وكعادة الروايات المماثلة لم تضع حدا زمانياً لحصول ذلك، وإنما اكتفت بذكر أن هذا الحدث يقع قريباً من الظهور الشريف، وهذا القرب قد يشترك مع روايات أخرى ذكرت بأنها تحصل قريباً من الظهور الشريف أيضاً، كما هو الحال في الحديث الذي يذكر خروج الشيصباني في الكوفة، والذي نوهت الروايات بأنه سيكون قريباً من السفياني وقبله، او بثق في الفرات يؤدي إلى دخول الماء إلى أزقة الكوفة، وأمثال هذه الاحداث التي تشترك في المكان وتتحد في التقارب الزمني مع الظهور الشريف، غير أن هذا القرب يبقى نسبياً.
***
يبقى هل أن هذا الحدث قد تحقق أم لما يتحقق بعد؟
من الواضح أن الكوفة تعرضت لبطشات ظالمة عديدة على مر التاريخ، ولكن اقتران ذلك مع تحوّل الكوفة الى حاضرة علمية متميزة، لا يمكن أن يلحظ كما لوحظ في منتصف القرن الماضي وما تلاه، ولو قيّدنا هذا الحضور بظلم الثلث الأخير من القرن الماضي أي أيام نظام البعث المجرم، فإننا نجد تناسقاً بين وسعة الحاضرة العلمية في النجف الأشرف وهي المراد بها الكوفة في حديثنا أعلاه، وبين طبيعة الظلم الذي خصّه نظام الإجرام البعثي، وقد كان قد ابتدأ بتهجير شريحة واسعة من الحوزة العلمية منذ عام ١٩٦٩-١٩٧٠ بحجة عدم تجديد الاقامات الامنية، ثم تلاه بملاحقة وتهجير الحوزة العلمية العربية وتحديداً اللبنانية بحجج متعددة، وما أعقب ذلك في نهاية السبعينات والثمانينات وتحديداً في عهد المجرم صدام من تقتيل وسجن وملاحقة وتشريد وتسفير للغالبية العظمى من كوادر الحوزة العلمية واساتذتها، وصولاً الى اعوام التسعينات حيث اقترنت بتقتيل المراجع العظام، وكل هذا لعب دوراً كبيراً في تقليص الحضور العلمي وانزوائه في النجف وبطبيعة الحال فإن الإنتقال كان يتم بشكل تلقائي للحاضرة العلمية الثانية لشيعة أهل البيت عليهم السلام وأعني مدينة قم المقدسة، والتي شهدت إقبالاً واسعاً وحضوراً فاعلاً للناجين القادمين من النجف الأشرف إليها، في وقت كانت الحوزة العلمية في قم المقدسة وبفضل ما تتيحه أجوائها قد شهدت تطوراً ملحوظاً على مستوى الكم والكيف، ولذلك يمكن أن نجد تقارباً مهماً بين هذا الواقع وبين ما أشير إليه في الروايات التي ذكرناها.
ولربما نلاحظ أن سقوط النظام المجرم عام ٢٠٠٣ وما أدى ذلك إلى إنتعاش الوضع العلمي بعودة اساتذة وكوادر الحوزة مجدداً من قم المقدسة إليها، وما ساهم الجو الجديد من جذب الطاقات الكامنة في العراق وغيره، ما يفسر لنا سر التعبير بالسبطة او الفترة في الروايات بعد ان عبرت بالبطشة، فالانزواء العلمي كان مؤقتا، وهاهو قد عاد بفضل المثابرة الدؤوبة والجهد المضني والصبر الشديد الذي أبدته هذه الحوزة رغم كل عاديات الزمن.
حقيقة أنا أجد أن ما أشارت إليه الروايات ربما هو عين ما أشار إليه حديث أبان بن تغلب عن إمامنا الصادق عليه السلام، والحمد لله أولاً وآخرا وصلاته وسلامه على رسوله وآله أبداً.
https://telegram.me/buratha