البعض من ضعفاء النفوس والإستدلال والمنطق يأخذون علينا إنّ الحديث عن التاريخ وشخصياته عملية تحجم الدور المعاصر للشعوب في حدود الماضي، فيما الحقيقة تجافي ذلك تماماً وهو أن نعيش الواقع بظروفه وأن نكيِّف تطلعاتنا على أساسه.. فالماضي ينقسم على قسمين: ماضٍ يموت، وماضٍ يحمل عناصر القوة الإيمانية والخلود وبقاء مشعل الحقيقة متوهجاً، لأن الحقيقة التي تعيش في الحياة واحدة، وليس لها عمر، ولا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل.
الأشخاص الذين يعيشون الحقيقة وواقعها وفی قلبها، تنطلق حياتهم من موقع القيم الروحية الإيمانية والأخلاقية التي تمتد على طول الزمن، فهؤلاء لا يموتون، ولايشعرون بأنهم جزء من الماضي الذي ذهب، بل هم مظهرٌ للزمن الذي يتجدّد، لأنهم يتجدّدون مع الزمن، ويجدّدون الزمن؛ ويساعدون على تكامل الإنسانية في المجتمع البشري وتوعية الضمير، وهذا الأمر ليس بيسير على كل انسان رجل كان أم أمرأة وهو بحاجة الى إيمان حقيقي كبير يقدم الشخص من أجله الغالي والنفيس على طبق الإخلاص للباري تعالى.
سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين فاطمة الزهراء عليها السلام الذي نعيش هذه الأيام ذكرى إستشهادها المؤلم والمفجع، قدمت دروساً كبيرة في تبيين الحقيقة بقيامها بمسؤوليتها الرسالية ودفاعها عن القيم والرسالة السماوية السمحاء ووصية خير المرسلين وخاتمهم المصطفى الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، وكيفية التعامل مع الواقع الذي أحاط بالأمة بعد وفاة رحمة للعالمین الرسول الکریم صلى الله علیه وأله سلم، وكانت صاحبة الموقف الذي آمتدَّ عبر الزمن وظلّ حيّاً حتد الآن، وسيبقى كذلك بقي الدهر والزمان قائماً.
دراسة تجربة سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء (ع) هو ليس عودةً الى الماضي الأليم المحزن، ولا يراد منه أن تتحجّم الأمة وإبقائها في تلك الحقبة المخزية، إنما هو إستيحاء الماضي من خلال تجربة رائدة صنعتها شخصية معصومة عالمة مجاهدة مناضلة شهيدة من أجل الحق والحقيقة والولاية السماوية، وتذكرة بأولئك الذين نقضوا العهود التي قطعوها على أنفسهم أمام أكثر من 130 ألف حاج بحضور حبيب رب العالمين المصطفى الأمين (ص) في غدير خم، وإنّ هذه التجربة لم تكن في يوم من الأيام مقتصرةً على الماضي، بل هي ممتدة مع الزمن حيةً متجدّدة مع تجدد العصور والأزمنة .
أخذ رسول الله صلى الله عليه آله وسلم يوماً بيد أبنته فاطمة عليها السلام في جمع من أصحابه، وقال مخاطباً إياهم: "وأما أبنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، ونور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي... وإني لما رأيتها ذكرت ما يُصنع بها بعدي، كأني بها وقد دَخل الذل بيتها، وأنتهكت حرمتها، وغُصبت حقها، ومُنعت إرثها، وكُسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمداه، فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية... فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك: اللهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وأذل من أذلها، وخلد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها..."- جاء في فرائد السمطين: ج 2 ص 34-35 والأمالي للشيخ الصدوق ص 99- 101 وإثبات الهداة: ج 1 ص 280 -281 ، وإرشاد القلوب ص 295، وبحار الأنوار: ج 28 ص 37 -39، وج 43 ص 172- 173، والعوالم: ج 11 ص 391 و392، وفي هامشه عن غاية المرام ص 48 والمحتضر ص 109، وجلاء العيون للمجلسي: ج 1 ص 186- 188 وبشارة المصطفى ص 197- 200 والفضائل لابن شاذان ص 8- 11، وتحقيق المحدث الأرموي.
نهتم بذكرى الزهراء (ع)، لأننا عندما نذكرها نذكر قضية الرسالة، وكيف كانت (ع) فيها، ونذكر خط الحركة الإسلامية في القضايا المتحركة في داخل الإسلام التي كانت الزهراء (ع) عنصراً حيويّاً فيها، إنّنا نتذكّرها في ذلك كلّه، لأنّ هناك أشخاصاً في التاريخ ينتهون عندما يموتون لأن حياتهم تختصر في داخل ذاتهم، وهناك أناس يبقون في الحياة حياةً تنفتح على رسالتهم ليبقوا ما بقيت رسالتهم. وفاطمة الزهراء (ع) من هؤلاء، ذلك أنك لا تستطيع أن تذكر رسول الله إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر عليّاً (ع) إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر طفولة الحسن والحسين وزينب عليهم السلام إلاّ والزهراء هي سرّ الطهر في طفولتهم. لذلك ندعو إلى أن تبقى الزهراء في عقولنا وفي قلوبنا رسالةً وفكرةً لا مجرد دمعة، لأننا لا نملك إلاّ أن ننفتح عليها بدموعنا، ولكن الأكبر من ذلك أن ننفتح عليها برسالتها، لأنها عاشت كلّ دموعها للرسالة ولم تعشها لنفسها طرفة عين، وهذا هو سرّ أهل البيت (عليهم السلام) في أنهم عاشوا للإسلام كلّه، ومن هنا، فإنّ علينا أن نوظف كلّ ذكراهم من أجل الإسلام كلّه.
وما هي إلا أياماً معدودة وإذا بالطاغية الثاني وهو يتقدم على جمع حشود المنافقين حول دار فاطمة (ع) ومهبط الوحي والتنزيل الذي كان لايدخله النبي (ص) دون إستئذان؛ وإذا به يقف عند الباب وهو ينادي وبصوت عالِ "آتوني بحطب لأحرق الدار ومن فيها" فقالوا له: يا أبا حفص أن فيها فاطمة ! فقال: وإن!! - رواه "البخاري" في "الصحاح" و"المسعودي" صاحب تأريخ "مروج الذهب" في كتابه "إثبات الوصية" و"أبي الفتح الشهرستاني" في "الملل والنحل" و"أبن قتيبة" في "الامامة والسياسة" و"أبن أبي الحديد" في "شرح نهج البلاغة" و"الطبري" و"السمهودي" و"الامام الغزالي" وغيرهم من كبار علمائهم، ليمهد طريق أستباحة الحق وتزييف الحقيقة وظلم الناس وإستعبادهم والنيل من أهل البيت (ع) وشيعتهم في كل زمان ومكان وهو ما نراه اليوم في مختلف البلاد العربية.
نجدها سلام الله عليها أنها عاشت في أبعاد متنوعة من حركتها ونهضتها وتصديها لحركة لإنحراف والتزوير وتشويه الدين الاسلامي الحنيف منذ اللحظات التي كان لايطال جسد أبيها الرسول الأعظم لم يوار الثرى للحاق بالحبيب، وكان تحركيها الى جانب أنه كان يحمل البعد الروحي لكنه لم يُغلق الأبواب عن البعد الاجتماعي والسياسي والتربوي والعائلي. وعندما ندرس حياة السيدة الزهراء (ع)، فإننا نجد أنها انطلقت لتواجه الموقف من موقع التحدّي وردِّ التحدي، ولم تقف موقفاً سلبياً حيادياً؛ حيث أن مسألة الخلافة ليست مسألة بعلها وأبن عمها الامام علي أمير المؤمنين عليه السلام، بل إنها مسألة الأمة ومسألة الرسالة. وكانت تشعر أنها مسؤولة عن حماية الأمة وحماية الرسالة السماوية الحقة.
كما أن مطالبتها بملكيتها فدك لم ولن يكن نابع من طمع بمال أو أرض أو إرث لم يكن لها، بل كانت المسألة بالنسبة لها تمثل إنطلاقة لتبيين وتثبيت الحق والحقيقة، ودفع الأمة للعودة بالوفاء الى القيم والنبل التي جاء بها والدها النبي الكريم (ص) وأخرج بموجبها الناس من الظلم والشرك والجهل والعبودية للأصنام، الى النور والعلم والعدل والمساواة ووحدانية الله سبحانه وتعالى بتمسكهم بالقيم والمواثيق ووصايا خاتم المرسلين (ص).
يروى أنه قبل إلتحاقها ببارئها الى جوار أبيها لسبب ما عانته من مصائب وآلام كثيرة نتيجة عصرها بين الباب والحائط في يوم الهجوم على دارها، والذي تسبب بدخول المسمار في ضلعها وإسقاطها لجنينها، ومنعها من البكاء على رحيل والدها وشكوتهما له في بيت الأحزان وحتى تحت شجرة الآراك التي أمر الثاني بقطعها، قال عمر لأبي بكر: انطلق بنا الى فاطمة فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلّماه فأدخلهما عليها بعد إستئذانها، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها الى الحائط، فسلَّما عليها فلم تردّ عليهما السلام، وقالت: "أرايتكُما إنْ حدّثتكُما حَديثاً عن رسولِ اللَّهِ (ص) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم، فقالت: نَشَدتُكما اللَّهَ ألم تسمعا رسولَ اللَّه (ص) يقول: رضا فاطمة من رضاي وسَخَطُ فاطمةَ من سَخطي، فمن أحبّ ابنتي فاطمة أحبّني، ومن أسخطَ فاطمة أسخطني، قالا: نعم، سمعناه من رسول الله (ص)، فقالت: فإنّي أُشهد اللَّهَ وملائكتَه أنّكما أسخطتُماني وما أرضيتماني، ولَئِن لقيتُ النبي لأشكونكُما إليه، فقال أبو بكر: وأنا عائذ بالله من سخطِه يا فاطمة، وهي تقول: والله لأدعونّ عليكَ في كلّ صلاةٍ أُصلِّيها"- رواه إبن قتيبة في «الإمامة والسياسة» نقلاً عن عائشة، وكذا جاء في «الاحتجاج»، و«معاني الأخبار»، و«شرح النهج» لإبن أبي الحديد، وأمالي الشيخ، وفي «كشف الغمة» عن صاحب كتاب «السقيفة».
وکآني بها تقول:
أبَتاهُ هَذَا السَّامِرِيُّ وعِجْلُهُ تُبِعَا وَمَالَ النَّاسُ عَنْ هارُونِ
أَيَّ الرَّزَايَاأَتَقِيّ بِتَجَلُّدٍ هُوَ فِي النّوَائبِ مُذْ حَيَّيْتُ قَرِينِي
فَقْدِي أَبِي أَمْ غَصْبَ بَعْلِي حَقَّهُ أَمْ كَسْرَ ضِلْعِي أَمْ سُقُوطَ جُنَيْنَيْ
أَمْ أَخَذَهُمْ إِرْثِي وفَاضِلَ نِحْلَتي أَمْ جَهْلَهُمْ حَقِّي وَقَدْ عَرَفُونِي
قَهَرُوا يَتِيمِيكَ الحُسَيْنَ و صِنْوَهُ وَسَألَتهُمْ حَقِّي وَقَدْ نَهَرُونِي
* للشاعر المرحوم الشيخ صالح الكوّاز
https://telegram.me/buratha