جمعة العطواني
يبني الدكتور محمد شحرور نظريته الاسلامية على اساس ( نسف) لحديث الرسول الاعظم والتراث الاسلامي، لانها ( مليئة) بالدس والتزوير، وانها جاءتنا من رجال يكفر بعضهم بعضا، وان احكام الدين وحدوده لا تحتاج الى احاديث النبي لانها غير ملزمة بالاساس ، وان ما صدر منه هو لتنظيم الحياة وفق ما يناسب البيئة الاجتماعية في وقتها، وهي ( غير ملزمة لنا).
فشحرور ينسف الأحاديث مرة لانها مزورة واخرى لانها غير ملزمة بالنسبة لنا حتى لو كانت صحيحة.
والعمدة في نظرية شحرور هو القران الكريم ليس إلا.
لا نريد الخوض في الرد على تهافت هذا الراي وفساد النظرية( في الجملة) من خلال ابراز دور الحديث النبوي في تفسير القران الكريم وتبيين المتشابه من المحكم، او في تفصيل مجمل الأحكام الاسلامية ، وسنكتفي بالقران الكريم الذي يقول ( وما اتاكم الرسولُ فخذوه وما نَهَاكُم عنه فَانتَهُوا )- الحشر ٧ ، وما فيها من دلالة ( حجية) قول الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم) وفعله وتقريره كجزء من الشريعة الاسلامية، على اعتبار انه لو كان المقصود بهذه الآية الكريمة هو الأخذ بما جاء به القرانِ الكريم من احكام فهذا تحصيل حاصل ، ولا يحتاج الى تخصيص. كما لو يقول لك احدهم( اذا عطشت فاشرب الماء)!
وقبل ان نتجاوز هذا الرد( الحَلِّي) ونكتفي بالرد ( النقضي) ،ونحاكمه على ما ذكره في احدى مقالاته، من الضروري الإشارة الى انه:
اذا كان سبب عدم آخذك بالأحاديث النبوية كون انها تعرضت الى التحريف والتدليس، وان الناقلين لها يكفر بعضهم بعضا، فان هذا السبب سينطبق على القران الكريم ، لانه وصل إلينا عن طريق هؤلاء ايضا ، فلماذا تقبل القران الكريم وتسلم بصحته وانه وصل إلينا عن طريق الرواة الذين تعترضْ على نقل الحديث عنهم ؟
قد تقول ان القرانِ وصل إلينا مكتوبا ومتواترا ولا خلاف بين القوم على صحته ونصوصه الإلهية .
اذا اذا كان هذا الكلام حجة لك فلتقبل بالأحاديث المتواترة المنقولة عن النبي الاكرم والتي يتفق الجميع على صحتها اسوة بالقران الكريم.
هناك احاديث مزورة ومدلسة نعم، لكن بالمقابل توجد احاديث متواترة بين المسلمين بكل مشاربهم واتجاهاتهم، فلماذا هناك يجوز وهنا لا يجوز( حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد) اليس كذلك؟
نعود الى اصل ماذكره الشحرور في مقاله والرد عليه وكالاتي :
١- يقول شحرور( تاخد برامج الفتوى حيزا لا باس به من الفضاء الاعلامي ، المرئي والمسموع ، الالكتروني وغيره، وتشترك جميعا بمبدأ أساس وهو السؤال عن الحلال والحرام، وفيما ينشغل العالم بالحروب والاحتباس الحراري ومشاكل الفقر والجوع).
الجواب : البشرية بصورة عامة منشغلة بالكثير من الاهتمامات ، سياسية واقتصادية وعلمية وفكرية واجتماعية فضلا عن الدينية، ولا يعني ان انشغال البعض باهتمام معين يعني منع الآخرين من الانشغال بسائر الاهتمامات ، كما انه ليس الاهتمام بسائر الشؤون الاخرى متوقف على عدم الانشغال بمسائل الحلال والحرام .
فمن منع الآخرين من الاهتمام بالاحتباس الحراري ؟ هل منعهم الانشغال بالحلال والحرام؟
هذا التبرير يذكرني بموقف طريف، اذ كان رجل كبير بالسن راكبا في ( باص) والى جانبه ( فتاة) شبه عارية، ومحرجة من كثرة الناظرين اليها ، وكان الى جوارها شاب( مراهق) يطيل النظر الى مفاتن جسمها ويحتك بها، فقال لها الرجل الكبير ( ناصحا ) ( لولا سترتي جسمك كان افضل لك) ، فقاطعه المراهق قائلا( عمي شوف العالم وصلت للقمر وانتم بعدكم بهاي السوالف)؟
فرد عليه الرجل الكبير متهكما وقد نزع ثيابه قائلا( هس شلون نلحكهم)، بمعنى ان المانع من الوصول الى القمر هو الستر والعفاف؟
كذلك الحال بالنسبة للشحرور نقول :الاهتمام بالحلال والحرام ليس سببا بعدم الاهتمام بالاحتباس الحراري او غيره، كذلك معالجة الفقر ليس سببها توضيح الحلال والحرام، بل العكس هو الصحيح .
٢- يقول الشحرور( يبدو هذا الامر طبيعيا امام الكم الهائل من الأحاديث الموروثة التي تجعل من الحياة اليومية مجموعة من المحرمات يرتكبها الانسان كيفما تحرك، ومن ثم على المؤمن ان يكون حذرا ............... فالله كما صورته لنا كتب التراث هو- حاشاه- اله يعد الناس على عثراتهم ، ويهوي تعذيبهم ، وسيكويهم بدرجات نار جهنم).
ويستطرد قائلا( لكن المفارقة تكمن في كون ماورد في التنزيل الحكيم مختلف تماما عما ورد في الموروث الفقهي ، فالله رؤوف رحيم ، يغفر ذنوب عباده ، ولم يخلقهم ليعذبهم ).
الجواب :ان الحديث عن العذاب والكوي بالنار وبدرجات جهنم لم تكن من مرويات التراث الاسلامي الذي هو الحديث النبوي ( صلى الله عليه واله وسلم) كما يقصده الشحرور، وانما حديث القران الكريم اولا وبالذات، واليكم بعضا منه:
فالقران الكريم يقول:
- ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كُنتُم تكنزون ) التوبة ٣٥
-( وما ادراك ماسقرر لاتبقي ولا تذر ) المدثر ٣٠
-( فإما الذين شقوا ففي النار لهم فيها شهيق وزفير) هود ١٠٧
وغيرها كثيرٌ كثير.
نعم في مقابل إيات الوعيد هذه توجد آيات الوعد الالهي التي تبشر عباد الله وهي كثيرة جدا، فالعمل بمبدأ ( الرجاء والخوف ) اي رجاء رحمة الله تعالى ومغفرته ، والخوف من عذابه وارتكاب معاصيه تجعل الانسان يعيش الحالة الوسطية ، فالاعتماد على رحمة الله تعالى فقط ستؤدي الى الاستخفاف والاستهانة بأحكام الله التي حذر منها، ثم ان القران الكريم يقول( ان رحمة الله قريب من المحسنين ) الاعراف ٥٦ ، وليس من العاصين المعتمدين على مغفرة الله تعالى .
بالمقابلِ فان الاعتماد على ان الله( شديد العقاب) فقط تجعل الانسان يعيش حالة القنوط والياس من رحمة الله تعالى ( انه لا ييئس من روح الله الا القوم الكافرون) يوسف ٨٧
هذا التقابل والتوازن مابين الرجاء والخوف يجعل الانسان متوازنا في حياته وسلوكه ، راجيا لرحمك الله تعالى وخائفا من عذابه .
اما على نظرية شحرو فبإمكان الانسان ان يعمل الموبقات اتكالا على ( ان الله غفور رحيم ).
٣- يقول شحرور( ان الأصل في الأمور الإباحة الا ما حرم الله - قل تعالوا اتلوا ما حرم ربكم عليكم - الانعام ١٥١
ماعدا الدماءِ ( احلت لكم بهيمة الانعام ) المائدة ١٥، وبالتالي اذا علمنا ماهو محرم علينا وتفادينا ارتكابه ، نعلم ان كل الأمور الاخرى حلال ، تحكمها القوانين والاعراف والأذواق الشخصية .
الجواب: طبعا يقصد ان الله تعالى لا يحتاج ان يقول ( كذا حلال وكذا حلال) فقط يحتاج ان يقول المحرمات ، ولم يقل كذا حلال فقط في اية ( أحلت لكم بهيمة الانعام) .
نعم الأصل في الأشياءِ الإباحة والطهارة والبراءة عند الشك بالحكم وعدم العلم بالموضوع، وهذه قواعد فقهية مثبتة في محلها ، بالمناسبة ما يقوله شحرور هنا منقول بروايات نبوية واحاديث اهل البيت عليهم السلام، وجعلها الفقهاء قواعد ثابتة .
بمعنى لو أردت ان تشرب الماء في مكان ما، ولا تعلم ان هذا الماء طاهر او نجس، فالاصل في الماء انه طاهر والنجاسة حالة عرضية عليه، وعند الشك تبني على الأصل، وليس على الحالة العرضية ،لكن عندما يأتي شخص تثق به ويقول هذا الماء نجس فلا يجوز البقاء على اصل الطهارة ، لان يقيني السابق بطهارة الماء اصبح يقينا (متزلزلا )بسبب اليقين بنجاسته.
كذلك بالنسبة للاحكام التي لم يرد فيها نص يشير الى حرمتها فالاصل الحلية والبراءة، وهذا منصوص عليه بالقران الكريم( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء ١٥، والرسول أشارة الى التبليغ بالأحكام ، فما لم يرد نهي لا حرمة هناك .
لكن قول الشحرور ان الله تعالى لم يذكر في القرانِ الكريم الا المحرمات ، وذكر من الحلال فقط ( أُحِلَّت لكم بهيمة الانعام) فهذا اشتباه كبير ،لان القرانِ الكريم ذكر الحلال في اكثر من موضع منها قوله تعالى:
- ( احل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم) البقرة ١٨٧
-( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) المائدة٩٦
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ )المائدة ٤
-( احل لكم الطيبات وطعام الذين اوتوا الكتاب ) المائدة٥
وغيرها.
٤- يقول الشحرور( وقد يقول قائل : وماذا عما وصلنا عن الرسول من تحريم لأمور عدة؟ نقول ان الرسول - ص- لم يملك حق التحريم ، وما حرمه هو المحرمات ذاتها التي حرمها الله وبلغها هو ، اي في نطاق الرسالة فقط، اما في مقام النبوة فهو لم يمتلك حق التحريم ( يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك تبغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم) التحريم ١
واجتهاداته لمجتمعه تدخل ضمن تنظيم الحلال ليس الا، وغير ملزمة لنا ، وينطبق عليها مبدا اساس هو( تتغير الأحكام بتغير الزمان) ،واليوم فان معظم القوانين في دول العالم تدخل ضمن تنظيم الحلال ايضا).
الجواب: وهنا التهافت واضح في جواب الشحرور، ولا نريد الخوض في معنى الرسوب والنبي( صلى الله عليه واله وسلم) وصلاحيات كل منهما ، لكن من المهم الإشارة الى عدة نقاط ضمن مجاراة لنظرية الشحرور منها :
أ- ان الرسول لا يملك حق التحريم بدلالة ماذكر من الآية فهو مردود من عدة وجوه:
الاول: قوله تعالى( وما اتاكم الرسول فَخُذُوه وما نَهَاكُم عنه فَانتَهُوا )، وليس من المعقول ان يقصد ما نص عليه القران الكريم وهو تحصيل حاصل كما ذكرنا سابقا، بمعنى هل يُعقَل ان ينص القران الكريم على واجب ونحتمل انه غير واجب حتى يحتاج ان يقول اذا جاءكم حلال بنص القران وأخبر عنه الرسول فَخُذُوه ، واذا جاء حرام وأخبركم النبي فاجتنبوه؟
اذا لابد من تشريعات، وتفصيلات لتشريعات جاءت عن طريق الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم) غير مذكورة في القران الكريم ويريد الله ان يقول ان ما يأتيكم به النبي فهو يريده الله وان كان غير مذكور في القران بتفصيل.
ب- ان مبدا ( تتغير الأحكام بتغير الزمان) هذا نسف حتى لنظرية شحرور التي يبحث فيها عن المحرمات الاربعة عشرالمنصوص عليها في القران الكريم ، وعندها لا يوجد احكام ثابتة في القرانِ الكريم. لانها تتغير بتغير الزمان.
فمثلا الربا قد يصبح حلالا بناءا على نظرية الشحرور، لان مقتضيات الزمانِ قد تتطلب ان نتعامل مع الربا، لان العالم اليوم محكوم بهذا التعامل، وزمان حرمة الربا قد تغير ، وعندها نفتح على المحرمات في القرانِ الكريم أبوابا لن تبقي محرما واحدا بناءا على تغير الزمان .
الصحيح ان ( الأحكام تتغير بتغير الموضوع )، فالحكم ثابت والموضوع متغير ، ولنضرب مثالا فان مفهوم الفقير في صدر الاسلام يختلف عن مفهوم الفقير في عصرنا الحالي، وعليه يتغير الحكم بتغير الموضوع فالحكم ثابت لا يتغير، ولذا يبقى الربا حرام مهما تغير الزمان، والسرقة والزنا أحكامها ثابتة الى نهاية الدنيا .
٥- يقول الشحرور ( اليوم فان معظم القوانين في دو العالم تدخل ضمن تنظيم الحلال، فحقل الحلال واسع وممتد ، وتخطي حدوده غالبا فيه إساءة للآخرين والمجتمع).
الجواب: في كلام الشحرور مجافاة وقلب للحقيقة التي يعيشها العالم ، فالمجتمعات اليوم وسعت من ارتكاب المحرماتِ ، فجميع المجتمعات في العالم -غير الاسلامي -تتعاطى بقوانين تتعارض من الفطرة الانسانيةِ والإسلامية المنصوص عليها في القران الكريم ، وتشريعها لقوانين تجعل منها حلالا ، فقانون المثلية الجنسية اصبح من القوانين الطبيعية في امريكا ، إذ يحق للذكر ان يتزوج ذكرا مثله ضمن مقولة الحرية الشخصية ، والربا اصبح له قانونا تتعاطى معه المجتمعات غير الاسلامية، وحتى الاسلامية في معظم الحالات، اما الزنا واكل لحم الخنزير والميتة والتجاهر بالفواحش عادة سلوكا يوميا تنظمه قوانين وتدافع عنه أنظمة ، فعن اي قوانين تنظم الحلال يا ابن الحلال؟.
جمعة العطواني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha