لا يمكن إنكار أن التاريخ الاسلامي باداة أموية مسعى لقلب الحقائق التي دارت في مسيرة الدولة الاسلامية منذ تأسيسها على عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، لذا هو مليء وحافل باسماء قادة وحكام وولاة طغاة وبغاة ناقضين للعهد ناكثين للوعود قاسطين منافقين مارقين قساة ظلمة شوهوا صورة الاسلام المحمدي الأصيل، وعملوا جاهدين خلافاً لما أمرهم الله سبحانه وتعالى وأوصاهم به رسول المحبة والمودة الصادق الأمين (ص) فأدموا قلبه الحنون وظلموا وقتلوا وهجروا أهل بيته الإباة الميامين عليهم السلام وشيعتهم ومحبيهم وأنصارهم منذ يوم السقيفة حتى يومنا هذا .
عملية التضليل على واقعة الغدير والعمل على إيجاد لغط وشكوك في حقيقتها ومصداقيتها كأمر ألهي، أكبر الإنحرافات وأكثرها قساوة للقوم ضد حقيقة ورسالة الاسلام التي بعث من أجلها الرسول الأكرم (ص)؛ بعد أن كان كبار القوم قد تسابقوا بحضور خاتم النبيين (ص) وأكثر من 130 ألف حاج معلنين الولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أميراً عليهم مصافحينه ومنادين بأعلى الأصوات "بخ بخ لك يا علي أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة" بعد الخطبة الغراء للرسول الأعظم (ص) قالها في حق ولاية علي بن أبي طالب كوصي دون فصل من بعده، بعد أن نزلت عليه الآية الكريمة " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" سوره المائدة: ٦٧.
روي أنّ أبا قحافة (والد أبو بكر) كان بالطائف لمّا قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبويع لأبي بكر (في السقيفة).. فكتب لوالده كتاباً عنوانه: "مِن خليفة رسول الله إلى أبي قحافة، أما بعد: فإنّ الناس قد تراضوا بي، فإنّي اليوم خليفة الله، فلو قدمت علينا كان أقرّ لعينك". قال: فلما قرأ أبو قحافة الكتاب قال للرسول: ما منعكم من علي؟ قال (الرّسول): هو حدث السنّ، وقد أكثر القتل في قُريش وغيرها، وأبو بكر أسنّ منهُ!!! قال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسنّ، فأنا أحقُّ من أبي بكر، لقد ظلموا عليّاً حقّه، وقد بايع له النبيّ (ص) وأمرنا ببيعته!!!.
ثم كتب إليه: "من أبي قحافة الى ابنه أبي بكر أما بعد ، فقد أتاني كتابك فوجدته كتاب أحمق، ينقض بعضه بعضاً، مرّة تقول: خليفة رسول الله (ص)!!! ومرة تقول: خليفة الله !!! ومرّة تقول: تراضىٰ بي النّاس!!! وهو أمر ملتبس، فلا تدخُلنّ في أمرٍ يصعب عليك الخروج منه غداً، ويكون عقباك منه الى النار والندامة وملامة النفس اللوّامة لدى الحساب بيوم القيامة، فإنّ للأمور مداخل ومخارج وأنت تعرف من هو أولى بها منك، فراقب الله كأنّك تراه ولا تدعنّ صاحبها، فإنّ ترْكها اليوم أخفّ عليك وأسلم لك.. والسلام" - (مباهج المهج للشيخ قطب الدين الكيدري/ الفصل الرابع، شرح النهج لإبن أبي الحديد (المعتزل) جزء 1 ص/222، بحار الأنوار للمجلسي جزء 8 ص/88، والاحتجاج للعلامة الطبرسي جزء 1 ص/226)
مسألة بيعة الغدير، بكل إيحاءاتها وإشاراتها، تركت آثارها العميقة في الكيان الاسلامي العام، حيث استطاعت بكل تفاعلاتها والمواقف السلبية والايجابية منها أن تختصر كل التاريخ الاسلامي في حركة التنوع والاختلاف والصراع. ومن أهم خصوصياتها انها لم تدع مجالاً للعذر مرة اخرى بالعودة الى الجاهلية والشرك والضلالة والظلم والطغيان والجبروت كما هو الحال في عالمنا العربي، بعد أن تم إكمال الدين على يد الرسول الاكرم (ص) ليتمها بولاية أئمة الهداية الربانية علي بن أبي طالب وأهل بيته الميامين عليهم السلام أجمعين.
أتبعهم قوم الجور والظلم والبغاء والطغيان في هذا النهج طيلة أكثر من 14 قرناً وفعلوا ما فعلوا من إجرام وطغيان وسفك للدماء الأبية والزكية وقمع الناس ونهب ثرواتهم وسلب إرادتهم وحرياتهم وقراراتهم السياسية وحياتهم الاجتماعية وقدموا الغالي والنفيس بأثمان بخسة ورخيصة للكافر المحتل على طبق من ذهب كي يبقوا في مسند السلطة والحكم على رقاب الناس ولو يكون ثمن ذلك قتل الملايين من أبناء جلدتهم بدم بارد دون أن تنبس لذلك حتى شفاه واحدة في عالمنا المعاصر عالم الحداثة والتشدق بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير والعيش بسلام وما القبور الجماعية، وأنهار الدم على يد الجماعات الارهابية التكفيرية المسلحة، والحرب على اليمن وإحتلال البحرين إلا أنموذج من هذه الصورة المريرة والمرعبة التي يشهدها تاريخنا الاسلامي.
تلك الحادثة العظيمة التي ولد فيها "عيد الغدير" الأغر عيد الله الأكبر الذي سمي في السماء بـ"يوم العهد المعهود" وفي الأرض بـ"يوم الميثاق المأخوذ والجمع المسؤول" ونعيش هذه الأيام ذكراه الحميدة لعلها تعيدنا الى الصواب وطريق الاسلام المستقيم طريق الله سبحانه وتعالى ورسوله (ص) والأئمة من أهل بيته الهداة الميامين ولاة أمرنا ونهج إستقامتنا كما قال في كتابه الحكيم "ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"- النساء 59.
ففي هذا اليوم أكمل الله سبحانه وتعالى دينه القويم للبشرية جمعاء وأتم نعمته عليهم بإختياره للامام علي بن أبي طالب عليه السلام أميراً للمؤمنين خليفة لرسوله الأعظم محمد (ص) دون فصل الذي خطب في جمعهم الحاشد حين رجوعهم من "حجة الوداع" في وادي "خم" وهو آخذاً بيد وصيه وأبن عمه علي بن أبي طالب (ع) قائلا:" ألستم تعلمون؟ ألستم تشهدون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، قال (ص): فمن كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه، اللهمّ عاد من عاداه ووال من والاه، وانصر من نصره، وأخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار، اللهم هل بلغت" - رواه كبار علماء العامة قبل الخاصة في مئات المسانيد بكتبهم المعتبرة والمسندة منهم: مسلم بن الحجاج في صحيحه ج2 325" و"أبن تيمية في كتاب منهاج السنة" و"العلامة السهمودي في جواهر العقدين" والفخر الرازي في تفسيره الكبير مفاتيح الغيب" وأبو الحسن الواحدي النيسابوري في أسباب النزول" و"الطبري في تفسيره الكبير" ونظام الدين النيسابوري في تفسير غرائب القرآن" و"العلامة السهمودي في جواهر العقدين" و"البخاري في كتابه فصل الخطاب" وعشرات أخرین لا یسع للمقال من ذکرهم جمیعاٌ ، ومن ثم نقضوا العهد والميثاق هذا.
واقعة "بيعة الغدير" تنطوي بعنوانها كميثاق للأمة الاسلامية ودينها الحنيف ودستورها القرآن الكريم على خصوصيتين مهمتين.. الأولى: ظرفيتها وقد تزامنت مع آخر لحظات الرسالة الربانية الخاتمة حيث تجلت من خلالها أرقى حقيقة وجودية ألاّ وهي "الولاية"؛ فقد كان لسان الحال فيها يقول "لا دين بلا ولاية "؛ لأنّ الدين المفرَّغ منها ماهيته مغايرة للحق والقانون الإلهي. أما الثانية: مصداقها هو "ولي الله" المتصدي للدفاع عن حريم هذه الحقيقة الدينية والمتجلي في شخص من فدى رسول الله صلى الله عليه و آله بنفسه.
إنّ مفهوم القيادة الذي جسدته "واقعة الغدير" يمكّن الأمة الاسلامية من صياغة وجود جديد يقيها الضياع، ويشدّ على يدها مؤمنا لها المسير على صراط مستقيم، يضمن لها أطرا سليمة و قوانين إسلامية كانت قد هجرتها ردحًا من الزمن، رغم تحذيرات نبيها فعن الامام علي أمير المؤمنين عليه السَّلام أنّ رسول الله (ص) قال في خطبة حجة الوداع: "... لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ..." كما جاء في المسانيد نقلاً عن موسى بن زكريا عن طالوت بن عباد عن حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن وأبن سيرين عن أبي هريرة؛ كما رواه "صحيح مسلم" في "كتاب الإيمان" نقلاً عن أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار.
تؤكد الحقائق أن واقعة "غدير خم" أوصلت الدين الى كماله وأضحت محورا للأمة جمعاء وضربة قاضية للمشركين والكفار ومن سار على ديدنهم؛ وفي الوقت نفسه مَسَدًا لباب الاعتذار أمام من سوّلت وتسوّل له نفسه تزييف حقائق الدين الاسلامي الحنيف والأمر الالهي المفروض الطاعة؛ كما قالت أم أبيها سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام: "... وهل ترك أبى يوم الغدير لأحدٍ عذرا ..." - الخصال للصدوق صفحة 173 .
حديث الغدير متواتر صحيح السند أكده غالبية كبار الرواة من العامة قبل الخاصة، ولضيق المقام نأتي هنا ببعض المصادر التي روته بعناوينها: أبن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة - ص 42 - 44، وأبن كثير: تفسير القرآن العظيم ج 4 - ص 113، وأبن حزم: الفصل - ج 4 - ص 148، وصحيح مسلم: ج 7 - ص 122 - 1، والنسائي: الخصائص - ص 39 - 40 - 41، والمحب الطبري: ذخائر العقبى - ص 67، وأبن المغازلي: المناقب - ص 29 الى ص 36، والشهرستاني: الملل والنحل - ج 1 - ص 163، والحاكم: المستدرك على الصحيحين - ج 3 - ص 109، والحافظ الذهبي في تلخيصه، وأبن حجر العسقلاني: الإصابة - ج 2 - ص 15 - وأيضا في ج 4 - ص 568 ، والمقريزي: الخطط - ج 2 - ص 92، والإمام أحمد في مسنده: ج 1 - ص 331 ط 1983، والبيهقي: كتاب الاعتقاد - ص 204 - وص 217 ط بيروت عام 1986، والسيوطي: الجامع الصغير - ج 2 - ص 642، والسيوطي: تاريخ الخلفاء ص 169، والمحب الطبري: الرياض النضرة - ج 2 - ص 172، وأبن خلكان: وفيات الأعيان - ج 4 - ص 318 و319، والخطيب البغدادي: تاريخ بغداد - ج 7 - ص 437 ، وأبن قتيبة: الإمامة والسياسة ج 1 - ص 109، وأبن تيمية: حقوق آل البيت ص 13 وعشرات آخرين غيرهم.
أخيراً وليس بآخر، روى المؤدب عن أحمد الأصبهاني عن الثقفي عن يحيى ابن الحسن بن الفرات، عن هارون بن عبيدة، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن قال: قال عمر حين حضره الموت: "أتوب الى الله من ثلاث: إغتصابي هذا الامر أنا وأبو بكر من دون الناس (الخلافة بعد النبي من علي)، واستخلافي عليهم، وتفضيلي المسلمين بعضهم على بعض" - الخصال ١/١٧٠ باب الثلاثة حديث ٢٢٥، بتفصيل في السند.
https://telegram.me/buratha