محمّد صادق الهاشميّ
إنّ من أعظم الموائد في شهر رمضان - ونحن في ضيافة الله - هي مائدة القرآن، حيث قال (ص) : « ومَنْ تَلا فيه آيةً من القرآن كان له مثل أجر مَنْ خَتَم القرآنَ في غيره من الشهورِ»، وقد رأيتُ أنْ أشغل بشيء من القرآن، وفي خصوص موضوعٍ طالما يثيره الملحدون، وهو التشكيك في عصمة الأنبياء. وقد توخيتُ الإيجاز، فاستخرت الله فكانت خيرتي أنْ أبدأ من عصمة النبيّ سليمان (ع).
وصياغة الشبهة أنّه لو كان الأنبياء معصومين من الذنب، فكيف يترك النبيّ سليمان صلاة العصر؟ وهذا القرآن يصرّح بذلك في قوله تعالى: {ووهبنا لداودَ سليمانَ، نعم العبدُ إنّه أوّابٌ * إذ عُرضَ عليه بالعشيّ الصّافناتُ الجيادُ * فقال إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب * ردّوها عليّ فطفق مسحاً بالسُّوق والأعناق}.
فقد ذهب جمع من قدماء مفسّري أهل السنّة كالطبريّ (تـ: 310 هـ )، والطبرانيّ (تـ: 360 هـ )، وابن الجوزي (تـ : 597 هـ) ، وغيرهم إلى: أنّ المقصود بالآيات المذكورة هو أنّ سليمان كان يمتلك العديد من أصناف الخيول الأصيلة في عرقها، السريعة في حركتها ،وكانت مدرّبةً على فنون الحرب والقتال، ومن شدّة حبّه للخيل فقد اعتاد أنْ يأمر باستعراضها أمامه، وفي يوم من الأيـّام ، بقي مشغولاً في استعراض الخيول حتّى غربت الشمس واختفت وراء الحجاب، وفاتته صلاةُ العصر، ممّا أثار الغضب الشديد في نفسه وحزن حزنًا شديداً ، فأمر الملائكة أنْ يردّوا الشمس ليصلّي، وشرع أمن فرط غضبه بقتلِ تلك الخيل، وطفق يضربها بسيقانها وأعناقها حتى قتل كلّ خيول الاستعراض.
وهذا التفسير منقول عن كعب الأحبار، هذا الرجلُ اليهوديّ المخضرم؛ إذْ أدرك الجاهلية والإسلام، من أهل اليمن، أسلم بعد وفاة النبيّ (ص) في خلافة أبي بكر، وقَدِم المدينةَ في زمن عمر، وأخذ عنه الصحابة وغيرهم كثيراً من أخبار النبيّ (ص) وتفسير القرآن!!!!!!، وسرَّب كثيراً من «الإسرائيليات» إلى التراث الإسلاميّ، ودسّ في الروايات ما تلقّاه من أحبار اليهود.
وممّا يؤسف له أنّ هذا التفسير قد تسرّب إلى كتب الشيعة أيضاً، فروى هذا المعنى عليّ بن إبراهيم القمّي (329 هـ) في تفسيره، وأورد هذا المعنى أيضاً الشيخ الصدوق ( تـ : 381 هـ) في «الفقيه»، و«علل الشرائع»، ثمّ أخذ عنه المتأخّرون ممّن فسّر القرآن بالأثر، كالسيّد هاشم البحراني، والمجلسيّ، و الحويزيّ.
وأوّل، وأقدم من رفض هذا التفسير – فيما عثرتُ عليه – من أصحابنا هو السيّد علم الهدى (تـ : 436 هـ ) في كتابه « تنزيه الأنبياء». والحقّ كما قال هذا السيّد المحقق من طرح هذا التفسير، وطرح هذه الروايات لمخالفتها ظاهر القرآن ، وذلك لما يلي:
1. إنّ الآيات في مقام المدح والثناء على سليمان فقال :{ نعم العبدُ إنّه أوّابٌ إذْ...}، فلو كان القرآن بصدد ذكر تفويته الصلاة لما كانت مقدّمة الثناء مناسبةً لموضوع ترك الصّلاة.
2. كيف يعود الضمير في قوله تعالى: « توارت بالحجاب » إلى الشمس، وأنّ المعنى : أنّ الشّمس توارت بالحجاب ففاتته الصّلاة؟ ولم يكن للشمس ذكرٌ لا سابقٌ ، ولا لاحقٌ!!.
3. قول سليمان: { عن ذكر ربي}، صريحٌ أنّه يحبّ الخيل لأنّها تذكّره بالخير، وقد سمّاها خيراً، والخيرُ معقودُ بنواصي الخيل إلى يوم القيامة، فلم يكن يحبّها لهوىً في نفسه، فكيف يحبّ شئياً كان سبباً في تفويت الصّلاة، ممّا يضطره إلى قتلها!!.
4. الأعجب من كلّ ذلك هي عبارة: {رُدُّوها عَلَيّ}َالتي اُدّعِى أنّ النبي سليمان أمر الملائكة بردّ الشمس، وما سمعنا أنّ الله قد سخّر له الملائكة ليأمرهم وينهاهم بصلافة : « ردّوها»، وهو المذنب .
5. إنّ التفسير الذي يذكره أصحاب المأثور يصوّر النبيّ سليمان جزّاراً، قد أحدث مجزرةً في الخيول الأصيلة لانفعالٍ وغضبٍ قد طرأ في نفسه، ونحنُ نعرف أنّ أنبياء الله لا يظلمون، ولا يأمرون بالظلم حتّى مع الحيوان؛ لأنهم معصومون مطهّرون.
والتفسيرُ الصّحيحُ المنسجمُ مع ظواهر الآيات المذكورة : أنّ النبيّ سليمان قد استعرض الخيول الأصيلة التي كان قد أعدّها للجهاد، فمرّت مع فرسانها أمامه في استعراضٍ منسّقٍ ومرتّبٍ، واستمرّ العرض حتّى انتهتِ الخيلُ كلُّها من الاستعراض وتوارت الخيول بِالْحِجابِ ودخلت في حظائرها، فأمر بردّها ليمسحَ على سيقانها وأعناقها ويكرّم القائمين عليها، وقد مدحه الله على ذلك، فلا صلاة قد فاتت، ولا مجزرة للخيل قد حدثت، فلا قدح في عصمة النبي سليمان . أعاذنا الله من زلّات القلم . والحمد لله ربّ العالمين.
26 / 4 / 2020م ، الموافق 2 / من شهر رمضان / 1441هـ .
ـــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha