* جميل ظاهري
لقد منحتنا نهضة عاشوراء وثورة الامام الحسين بن علي أمير المؤمنين عليهما السلام في يوم الطف بكربلاء سنة 61 للهجرة، دروساً كبيرة للأنسان في الشموخ والسمو والعظمة والعزة والبقاء الكريم والأخلاق النبيلة التي انطلقت منها رسالة خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وبكل صدق وإيمان عبر الفداء والتضحية الشاملة بتقديم الغالي والنفيس على طبق الإخلاص لإحياء الرسالة السماوية السمحاء دون تزييف وتحريف، ذلك الذي أنطلق من سقيفة "بني ساعدة" وأخذ بالمسلمين بعيداً عن حقيقة الدين الاسلامي الحنيف واعادهم الى عصر القبلية الجاهلية المظلمة.
كان لابد أن تدوم هذه المدرسة الوضاءة والمنار الراسخ على طول الدهر ليتمسك بها الأحرار والنبلاء والأباة من أبناء الأمة ومن الطالبين للعدل والعدالة والأخوة والتعاون والمساواة والاستقلال والحرية، في ظل أجواء البطش الأموي الإجرامي التكفيري الدموي حيث خيوطه باقية حتى يومنا هذا تسفك دماء الأبرياء وتعيث في البلاد والعباد والأمة والملة الفساد والتباهي والخذلان؛ فما كان من الامام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام إلا أن يحمل على عاتقه هذه المهمة الكبيرة إمتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى .
من هنا انطلقت مسيرة الامام علي بن الحسين (ع) في توعية الافكار المهجورة والمضللة وبرز بكل قوة على مسرح الحياة الاسلامية كالمع مفكر وداعية وسياسي إسلامي متصدي لتزوير وتزييف أبناء الطلقاء ووعاظ سلاطينهم حيث استطاع بمهارة فائقة أن ينهض بمهام الامامة وإدامة نهضة والده الامام الحسين (ع)، وحقق انتصارات باهرة عبر خطبتيه اللتين القاهما في مجلس "ابن زياد" بالكوفة وامام الطاغية الأموي الفاسق الفاجر شارب الخمر "يزيد" في الشام والتي كان لهما الأثر البالغ في إيقاظ الأمة وتحريرها من عوامل الخوف والارهاب والانحراف والتزييف والاعلام الموهم ليروي للناس كيف أن الحقيقة قتلت عطشى في كرب وبلاء وسلبت وذبحت من الوريد الى الوريد وداست الخيول صدرها بحوافرها لا ذنب لها سوى أنها أرادت الإصلاح في أمة الرسول محمد (ص) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أمرنا بذلك الدين الاسلامي الحنيف.
فقد ساد الحياة السياسية في الامام زين العابدين (ع) ألوان من القلق والاضطراب والرعب والارهاب والقمع والتنكيل، وخيم الذعر والخوف على الأمة، خاصة تلك المناطق التي يقطنها أهل البيت وشيعتهم كالمدينة في الحجاز والعراق؛ حيث حكم أموي دموي سفاح ارهابي تكفيري استهدف دماء الأحرار وأنصارهم ومحبيهم، وهم يزيد بن معاوية قاتل النفس الزكية ومداعب القردة حفيد هند آكلة الأكباد ذات الراية الحمراء (61ـ 64)، وعبد اللّه بن الزبير ـ (61ـ 73)، ومعاوية بن يزيد (بضعة شهور من عام 64)، ومروان بن الحكم (تسعة أشهر من عام 65)، وعبد الملك بن مروان ـ (65ـ 86) والوليد بن عبد الملك ـ (86ـ 96)، أولئك الذين عقدوا العزم على التضليل على الدين المحمدي الأصيل والثورة الحسينية الخالدة ثورة انتصار الدم على السيف.
فالبسوا فتاواهم حلة تكفيرية طائفية لتزحف الى كل شبر من الوطن الاسلامي وتأكل أخضر هذه الأمة ويابسها حتى يومنا هذا، وأضحى شعار الطائفة والمذهب والقومية التي نهى عنها الاسلام، هو الشعار المفضل عند الفئة الباغية الطاغية التي تقود الأمة سياسياً ودينياً، أخذة على عاتقها بأن لا ترحم الأمة ولا تراعي الحرمات والمقدسات وهو ما يشهده التاريخ منذ رزية الخميس وحتى عصرنا الحاضر، فئة لا يهمها أمر الدين ولا قدسيته وكل ما يهمها كرسي الحكم وسلطانه، وهو الأكثر امتطاءً من هؤلاء الذين أبتليت بهم الأمة لنشر الفتنة، وتفجير الأوضاع، وهدم وحدة الأمة، وتفتيت كيان الشعب الواحد، وتمزيق أشلائه، من العراق وحتى اليمن، ومن سوريا حتى البحرين.
رسم الامام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام الذي نعيش اليوم ذكرى إستشهاده المؤلم على يد الطاغية الأموي الجبار العنيد الظلوم الغشوم اسم الخليفة (المسعودي في مروج الذهب : 3 / 96)، القائل: "لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا" (رواه الزهري في كتاب حياة الإمام زين العابدين: 678)؛ معالم مدرسته الاسلامية ونهجه المقاوم للطغاة وفضح الظلم ونبذه والتصدي اليه على ضوء ما قاله والده الامام الحسين (ع) في يوم عاشوراء "هيهات منا الذلة" ولكن بأدعية عالية المضامين تستند كلها لوحي القرآن الحكيم وتعتبر بحق دائرة معارف عليا لجميع المعارف الالهية، ابتداءً من معرفة الله سبحانه وتعالى، وإنتهاءً بتكريس الصفات الرسالية عند الانسان المسلم في التوحيد والعدالة والمساواة كما وردت في "الصحيفة السجادية" في وقت كان العالم الاسلامي يمر بأصعب مراحله وحكم أعتى طغاته من بني أمية المجرمين.
الدين الاسلامي المحمدي الأصيل لطالما شدد على دور الدعاء في تربية الانسان المسلم وتوعيته وتنوير فكره وهدايته نحو الصواب والطريق القويم وتعزيز ارادته وعزمه على مواجهة المصاعب والمصائب وردع الظلم والفرعنة والطغيان والتصدي للظلم والاحتلال والاستعمار والدعوة نحو التحرر والاستقلال. وأشار القرآن الكريم والأحاديث النبوية أن للدين مظهرا وجوهرا، فالعبادات كالصلاة والصيام والحج و.. مظهر الدين فيما يشكل الدعاء جوهر الدين وعماده القويم فهو اتصال الانسان بالله سبحانه وتعالى وحديثه الخاص مع البارئ المتعال ومناجاته مع ربه الكريم .
نجح الامام علي بن الحسين (ع) في إبقاء نهضة عاشوراء حية ما بقي الدهر وبكلا شقيها "الحق المضيع والجسم المقطع" .. فاما الجسد المقطع فانتهت قضيته في يوم عاشوراء عندما ذبحت الحقيقة وقطعت أوصالها إرباً إربا وإن بقي الجانب المأساوي له يلهب القلوب أسفا حتى قيام يوم الدين وتتجدد ذكراه كل عام .. لكن الحق المضيع هي القضية الأكثر خلوداً وبقا لأن الأمة ترى في الامام رمزاً للمبدأ الحر وروحاً لمحمد المصطفى (ص) وعلي المرتضى (ع) ذبح من الوريد الى الوريد مع أهل بيته وأصحابه الأبرار في سبيل الرسالة المحمدية الأصيلة.. وقدم الغالي والنفيس في سبيل اعلاء كلمة الحق كلمة الاسلام كلمة الله سبحانه وتعالى .. وأضحت مناراً لكل الأحرار والمظلومين في كل مكان ولهذا ترى الشعوب العالمية برمتها وبكل أديانها أن الامام الحسين عليه السلام منهاجا ثوريا متكاملا.. وسيبقى خالداً ما خلد الدهر.
https://telegram.me/buratha