حسين فرحان||
المشاهدُ والحكايات في هذا الفضاء الأربعيني الواسع بعدد الخطوات على كل الطرق المؤدية للحسين..
المواقف المشرفة بعدد الحركات والسكنات والعَبرات، والدروس بعدد أنفاس أساتذة العطاء في مدارس العشق، والنتائج الباهرة بعدد الدموع التي تناثرت كعِقد لؤلؤ انفرط على طول درب المشاية..
للسائرين على الدرب، وللخدام على جانبيه حَكايا، ومن انشغل بتوثيق حكاية منها بأداة تصويره فقد فاتته ألف غيرها في مواضع أُوكلت مهمتها لملائكة السماء تُحصيها.
كانت المواكب التي تَشرفتُ بالجلوس أمام واجهاتها نافذة أُطلُ منها على تلك المشاهد، أحصي جوانب منها دون أن أمنحها ولو الجزء اليسير من حقها، فقضية أُوكِل أمرها للسماء ستعجز أمامها كل أدوات التوثيق البشرية وإن بلغت ما بلغت من التطور..
زائرٌ يطلب من زوجته الجلوس على كرسي أمام الموكب لتستريح بينما يطلب هو من الخدام مكنسة وأكياس نفايات، يأخذها ويبدأ بتنظيف الأرض، يجمع منها ما استطاع ويملأ بها الأكياس، بعد ساعة من العمل يتجه صوب زوجته، ليكملا مسيرهم نحو كربلاء، غادر المكان وخلف وراءه بصمة من عطاء.
زائرة في عقدها السابع من العمر، كانت تقف بالقرب من المجمعات الصحية لأحد المواكب، كانت منهمكة بتنظيف ألأرضيات، سألتُها: هل أنت من أصحاب الموكب؟ أجابت: ( لا يمه، بس آني على طول الطريق، من اشوف الصحيات تحتاج تنظيف أنظفها، خطيه أهل المواكب تعبانين واكفين ليل ونهار.. وآني اساعدهم بهاي الشغلة).. لم أنبس ببنت شفة، واحترت في أن أدعو لها أم ألتمسُ منها الدعاء، فاخترتُ أن تدعو لي..
زائراتٌ أقبلن من البصرة.. دخلن لموكب كان يستعد لتقديم وجبات السمك للزائرين، طلبن من صاحب الموكب ان يأذن لهن بتنظيف هذه الكميات الكبيرة من الأسماك، بعد الإذن لهن أنجزن المهمة وبوقت قصير، ثم مضين لإكمال ما تبقى من مسافة في طريق كربلاء، وسط مناشدة صاحب الموكب بأن يتناولن وجبة الغداء..
زائرٌ آخر التقيتُه، فكان مما دار بيننا من حديث خلو هذه الزيارة من الزوار العرب والأجانب بسبب تفشي الوباء، أخبرني همسا بأنه سيزور بالنيابة عنهم جميعا وقالها وهو يحاول إخفاء عَبرته: ( أزور نيابة عن أهل البحرين وأهل أيران وأهل لبنان واهل الكويت وكل واحد ماكدر يجي ..) ثم انفجر باكيا وهو يسجل أجمل موقف ولائي عابر لكل الحدود المصطنعة.
رجلٌ مسنٌ آخر كان يقف على إحدى ضفتي نهر العشق بالقرب من لافتة كبيرة تضم صورا لشهداء الفتوى وهو ينادي بصوت ضعيف طغت عليه أصوات مكبرات الصوت: ( لا تنسوهم بالزيارة، لو ما ذوله ما بقت زيارة).. أي معروف هذا الذي لم يتنكر له هذا الرجل المسن، وأي دماء هذه؟.
زائر آخر، كان يلتقط الصور للأطفال وهم يخدمون مع آبائهم في المواكب، سألتُه: كم صورة التقطت؟ قال: الكثير، وكلها للأطفال، قلت له ولماذا الأطفال فقط؟ أجاب بشيء من الحزن والحماسة: (يا أخي عجيب أمرهم، وعندما أحتاج للبكاء والتوجه واتذكر مصيبة الحسين عليه السلام أتفرج على هاي الصور.. ماكو على وجه الأرض طفولة تحمل عقيدة مثل طفولتهم). عجزتُ عن إكمال ما تبقى من أسئلة، فقد أجاب عنها جميعا، ودعتُه وهو مشغول بتصوير طفل آخر.
أكملت مسيري باتجاه موكب آخر، التقط من أمام واجهته صورا جديدة لمشاهد لا مثيل لها، وصوت قصيدة حسينية يرافقني وهو يردد: ( يمشي شعب حسين بهيبه وحزامه براية عباس)..
إنها الأربعين..
https://telegram.me/buratha