السيد علي الأكبر الحائري ||
· شمولية الأحكام الإلهية (دراسة نقدية لفكرة تغيّر الأحكام الشرعية وفقاً للظروف الاجتماعية)
الخطوة الرابعة:
لابدّ من التمييز أيضاً بين العناوين الكليّة المأخوذة في متعلّقات الأحكام أو في موضوعاتها، وبين مصاديقها التي لا يتغير العنوان الكلي بتغيّرها، حيث إنّ العناوين الكلية المأخوذة في الأحكام لابدّ من اتّباعها سلباً وإيجاباً كما نبّهنا عليه في الخطوات السابقة، وأمّا مصاديق تلك العناوين التي لا يتغيّر العنوان الكلي بتغيّرها فمن حقّ المكلّف أن يختار منها ما يناسب مقتضى الظروف والملابسات المستجدّة في العصر الحديث، كما كان كذلك في المقدمات والسائل.
ومثال ذلك أن العنوان الكلي المأخوذ في وجوب حجاب المرأة أمام الرجل الأجنبي عبارة عن (لبس ما يستر تمام بدنها عدى الوجه والكفّين) حسب المستفاد من الأدلّة الشرعيّة، وكان المصداق الشائع لهذا العنوان في العصور القديمة عبارة عن لباس مصنوع من الصوف مثلاً بقطعةٍ واحدة تستر بها تمام بدنها من الرأس إلى القدم عدى ما قد يظهر من الوجه والكفّين، وفي العصور الجديدة تواجدت مصاديق اُخرى قد تكون أنسب إلى مقتضيات الظروف الحديثة ولو في بعض البلدان، كالألبسة المصنوعة من الحرير وغيره من الأجناس الاُخرى الشائعة اليوم، وكالألبسة المركبة من قطعتين أو اكثر لستر تمام البدن عدى الوجه والكفين، وهي مصاديق جديدة لنفس العنوان الكلي المذكور، ولا يتغيّر بها العنوان الكلي المأخوذ في الحكم، مادام يحصل بها ستر تمام البدن عدى الوجه والكفين، فمن حق المرأة أن تتبع مقتضى الظروف الحديثة في مثل ذلك، إلّا إذا كان منافيا لعنوان آخر من العناوين الكليّة المأخوذة في حكم حجاب المرأة أو منافياً لقيدٍ دخيل في ذلك الموضوع الكلي، كما إذا كان لا يمنع عن ظهور حجم مفاتن بدن المرأة، فلا يجوز لها حينئذ الأخذ بهذا المصداق الجديد، بسبب منافاته للعنوان الكلي الآخر أو للقيد المأخوذ في ذلك العنوان الكلي.
وقد نجد في بعض الحالات أنّ المصداق الذي كان شايعاً في العصور القديمة للعنوان الكلي المأخوذ في الحكم قد خرج عن مصداقيّته لذلك العنوان الكلي وتحوّل مصادقه بحسب الظروف الحديثة إلى شيء آخر يختلف عن ذاك المصداق القديم.
مثال ذلك: عنوان (الإحسان) المأخوذ في جملة من الأحكام ـ من قبيل: (وبالوالدين إحساناً) و (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أوتسريح بإحسان) وغير ذلك ـ كان مصداقه في العصور القديمة عبارة عن تقديم ثوبٍ أو ثوبين مثلاً، والإسكان في دارٍ مشتملة على غرفة أو غرفتين مثلاً، ولكنه في العصر الحديث لو اكتفى بذلك لم يعد محسناً، بل لابدّ لصدق عنوان (الإحسان) أن يقدّم ثياباً عديدة ويحقّق الإسكان في دار واسعةٍ إلى غير ذلك من الاُمور الدخيلة في صدق (الإحسان).
مثال آخر: عنوان (الاستطاعة للحج) قد اُخذ عنواناً كليّاً في موضوع وجوب الحج، وكان يكفي في العصور القديمة لتحقّق هذا العنوان أن يمتلك دابة صالحة للذهاب والإياب مع المصارف الاُخرى اللازمة بحسب مقتضيات تلك الأزمنة، ولكن هذا في عصرنا الحديث لايعدّ استطاعةً، بل لابدّ لأجل صدق (الاستطاعة) للحج أن يملك ما يكفيه للسفر بالوسائل الحديثة، وهذا طبعاً غير ما ذكرناه سابقاً من الوسيلة التي تحقق عنوان (الكون في الميقات) فإنّ كلامنا الآن في مصداق العنوان الكلي لا في المقدمات والوسائل التي يتّخذها المكلّف لتحقيق العنوان الكلّي.
ففي حالات من هذا القبيل لا يتبدّل العنوان الكلّي الماخوذ في متعلق الحكم أو في موضوعه وإنّما يتبدّل المصداق مع الحفاظ على ذلك العنوان الكلي، ولا يحقّ للمكلف أن يتصرّف بنحوٍ يتبدّل به العنوان الكلي بعنوان جديد.
الخطوة الخامسة:
صيرورة الشيء مصداقاً لعنوان جديد
قد نجد في بعض الحالات أنّ الشيء الذي أصبح مصداقاً اليوم للعنوان الكلي المأخوذ في حكم من الأحكام بسبب الظروف والملابسات الجديدة في العصر الحديث مثلاً لم يكن في القديم مصداقاً لذلك العنوان الكلي المأخوذ في ذلك الحكم، فليست المسألة في هذا النوع من المصاديق مسألة شيوع مصداق جديد للعنوان في الظروف الحديثة لم يكن شائعاً في الظروف القديمة كما كان كذلك في الأمثلة السابقة، بل المسألة هي أنّ هذا الشيء الذي نجده اليوم مصداقاً للعوان الكلّي المأخوذ في هذا الحكم، لم يكن مصداقاً أصلاً لهذا العنوان في الظروف القديمة الماضية، وإنّما أصبح مصداقاً له بفضل اتصافه ببعض الصفات التي لم تكن فيه سابقاً، ففي مثل ذلك يترتّب عليه في الحال الحاضر الحكم الذي اُخذ فيه العنوان الكلي الجديد، سواء كان هذا الحكم متناسبا للمقتضيات العصرية المحبذة عند الناس في ذلك الظرف الاجتماعي الجديد او لم يكن متناسبا لذلك.
مثال ذلك: أنّ اللباس القبيح المذموم في يومنا هذا قد يعتبر بحسب ظروف اليوم مصداقاً للباس الذلّ أو لباس الشهرة المنهي عنهما في الأدلّة الشرعيّة، ولكن نفس هذا اللباس لم يكن مذموماً ولم يكن مصداقاً للباس الذل ولا للباس الشهرة في الأيّام التي كان لبس هذا اللباس شائعاً بين الناس، لفقرهم وعدم تمكنهم من تحصيل اللباس الفاخرن أو لأيّ سبب آخر، ففي مثل ذلك تترتب الحرمة الشرعيّة التي اُخذ فيها عنوان (لباس الذل) أو عنوان (لباس الشهرة) على هذا اللباس في العصر الحديث الذي صار فيه هذا اللباس مصداقاً لأحد هذين العنوانين، بالرغم من أنّه لم تكن تترتّب هذه الحرمة عليه في الزمان القديم.
مثال آخر: أنّ لبس السواد في ذكرى مصائب أهل البيت عليهم السلام أصبح في أواسط الشيعة مصداقاً لتعظيم شعائر الله تبارك وتعالى فصار يشمله استحباب تعظيم الشعائر المستفاد من الآية الشريفة (ومن يعظم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب) في حين أنّ هذا اللباس لم يكن في بعض العصور القديمة مصداقاً لتعظييم الشعائر وإنّما أصبح كذلك باتخاذ هذه العادة عند الشيعة بالتدريج في طول التاريخ حتى أصبح مشمولاً لهذا الاستحباب.
وهناك أمثلة كثيرة اُخرى لهذا الأمر.
https://telegram.me/buratha