مجيد الطائي ||
اتفق الأدباء والنقاد وأصحاب الذوق الأدبي كلهم بأن قصيدة ( ياحادي العيس ) من أروع ما نُظِم من الشعر العربي بلاغة وتصويراً و مفاهيمَ في العشق تلامس الوجدان والعاطفة ، لكنهم اختلفوا في فهم بيت القصيد، فروعة تصوير المشهد وزخم المشاعر وتشابك مفردات الغزل مع مفردات شعر العارفين والمتصوّفة، كل ذلك يترك للخيال أن يطير الى حيث يريد به المزاج ،
أما المؤرخون فقد ذكروها بقصص وتفاصيل لايشبه بعضها بعضاً في شيء ،واختلفوا في صاحب هذه الأبيات ومتنها وواقعتها جملة وتفصيلاً، ولم تخلُ من عبث اللاعبين، وكذلك من دس الذين في قلوبهم مرض، فنسبوها لمجنون مقيد في دير، ونسبوها لشاعر مصري عاش في بغداد معروف بالموسوس، ونسبوها لغير هؤلاء، كي لا تبتعد في مغزاها عن الغزل وجنون العشاق، ولم يضعفوا نسب القصيدة إلا للشاعر الكميت بن زيد الأسدي.
وعليه نتساءل ،كيف لقصيدة بهذه الشهرة والانتشار ،وبهذا الإبداع، ولايعرف شاعرها ، إلا إذا افترضنا أن شاعر هذه القصيدة يتقي نسبتها لنفسه، ويخشى على نفسه من شيء ، وهو بطش السلاطين الظَّلَمة الذين سعوا سعيهم وكادوا كيدهم لمحو ذكر الحقيقة ،وليميتوا وحي المودة لأهل البيت عليهم السلام .
ولم تسلم القصيدة،في متنها، من الإضافات والدس والتحريف، كي تبقى تتناغم مع مزاج أهل الغزل والأنس بالطرب ، والمتيقن من متن القصيدة هو هذه الأبيات:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسَهُمُ
وحمّلوها وسارت في الدجى الأبلُ
يا حاديَ العيسِ عرِّجْ كي أودعَهُمْ
يا حاديَ العيس في ترحالِكَ الأجَـلُ
اني على العهدِ لم أنقُضْ مودتَهم
يا ليت شعري بطول البعد ما فعلوا
لما علمتُ بأنَّ القومَ قد رحلوا
و راهبَ الديرِ بالناقوسِ منشغلُ
شبكت عشري على رأسي وقلت له
يا راهبَ الديرِ هل مرَّتْ بك الابلُ
يا راهبَ الديرِ بالإنجيـلِ تُخبرنـي
عن البدورِ اللواتي ها هنـا نزلـوا
فحنَّ لي وبكى وأنّ لي وشكا
و قال لي يا فتى ضاقت بك الحيلُ
ان البدورَ اللواتي جئتَ تطلبُها
بالأمسِ كانوا هنا واليومَ قد رحلوا
شبكت عشري على رأسي وقلتُ له
يا حاديَ العيسِ لا سارت بك الإبـل
أما أنا فمنذ أن سمعت أبياتها أول مرة، وقد غناها العراقيون بالمقام الحويزاوي الحزين، كان يميل بي مزاجي الى أن هذه القصيدة قد تكون من قصائد الرثاء الحسيني، ومن ثم حاولت أن أسقط أبياتها على واقع السيرة الحسينية وعاشوراء ومسير السبايا ولهفة المحبين المتيمين بحب آل المصطفى، فوجدتها قريبة الشبه في التصوير والإستعارة ،من قصائد كاظم منظور الكربلائي وعبد الحسين أبو شبع رحمهما الله تعالى.
وما رواه لنا التاريخ من قصة راهب الدير وفيض مشاعره الإنسانية والإيمانية في مسير السبايا مع رأس الإمام الحسين الذي كان مصداقاً للآية
«وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»
وكون راهب الدير في القصيدة هو شخصية رئيسة، يزيد في حساب الإحتمالات في ما نذهب إليه، ولعل قصة الراهب تفسر لنا أيضاً سر محبة الأخوة المسيحيين لسيد الشهداء الذي تتجلى ذروته مع ( مشاية الأربعينية )، وكذلك في جهاد الأخوة الكلدان بجانب الحشد الشعبي، كأنهم بنيان مرصوص في وجه الإستكبار والتكفيريين.
ثم إن عدم معرفة المؤرخين لصاحب القصيدة وتضعيف نسبها الى الكميت بن زيد الأسدي ، الملقب بشاعر الهاشميين، الذي عاش في العصر الأموي، وعرف بالتشيع والولاء لأهل بيت النبوة ، أو نسبتها لغيره ، يزيد بنا الميل الى أن القصيدة هي في رثاء سيد الشهداء ونسبتها اليه تكون أمراً منطقياً موضوعياً ،
ومنه نفهم أن الماكنة الإعلامية الحاقدة التي تعض علينا أناملها من الغيظ، تحاول تحريف وتهميش وشيطنة أتباع أهل البيت ورموزهم،و هو خبث قديم وحقد لئيم ، وعليه لابد لنا أن نكتب وننشر ونبقى على العهد كي يموتوا هم بغيظهم.
وأرى أن بيت القصيد هو :
إني على العهد لم أنكر مودتهم
يا ليت شعري بطول البعد ما فعلوا
وهو عهد الولاء لأهل البيت ومودتهم وتعظيم فرض الصلاة عليهم ،والحزن على مصائبهم والسير على نهجهم.
ونحن على العهد مهما أرجف المرجفون وغدر المنافقون وطَبَّعَ الذين في قلوبهم مرض مع أعدائنا ،
وسنبقى على العهد على سيرة النبي أشداء على الكفار رحماء بيننا، وعلى نهج أمير المؤمنين، في أن نكون للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ونكمل مطلب سيد الشهداء في الإصلاح، ونبقى على العهد معه، لنكون جنود الله الذين يملأون الأرض قسطا وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، تحت راية الحجة بن الحسن المهدى أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
https://telegram.me/buratha