الشيخ الدكتور باسم دخيل العابدي ||
· سلسلة من وحي الحسين عليه السلام/2
استيقظت المدينة المنورة على تداعيات تنصيب يزيد خليفة في الشام وكانت الاجواء فيها ملبدة بالقلق والاضطراب والرفض والانقسام .
كان الامويون يمسكون السلطة السياسية في المدينة بعدما عين معاوية ابن اخيه الوليد بن عتبة بن ابي سفيان واليا عليها قبل ذلك وهذا يعني ان الجو الاجتماعي العام فيها يميل الى بني امية على وفق نظرية (الناس على دين ملوكهم) ويعزز قوة بني امية وجود ( الجوكر) الاموي مروان بن الحكم واتخاذ والي المدينة الوليد بن عتبة من مروان بطانة ومستشارا في المسائل السياسية المهمة ولايخفى الدور الذي تؤديه بطانة السوء في افساد الحكام بل والعلماء على مر العصور فقد كان مروان اجلى مصاديق البطانة الفاسدة.
كان الخطب جللا في تلك الليلة التي استدعى فيها الوليد بن عتبة بن ابي سفيان الامام الحسين عليه السلام بعد اشارة مروان بن الحكم له باخذ البيعة من الامام الحسين سرا لاجتناب اجتماع الناس واعلان الامام الحسين الرفض امام الملا مما يسبب ارباكا وحرجا للسلطة الحاكمة وهذا مايلجأ اليه كثير من السلاطين والحكومات غير الشرعية على مر التاريخ عندما تحوك مؤامراتها في الليالي غير المقمرة.
ولما لم يجد مروان بن الحكم استجابة من الامام الحسين لمبايعة يزيد اخذ يحرض الوليد على قتل الامام الحسين عليه السلام في ذلك الموقف من تلك الليلة لان ترك الامام الى الصباح سوف يجلب المشاكل على حكم بني امية وقد اسس مروان في هذا الموقف نظرية مهما لرواد مدرسة الامويين واتباعهم من عباد السلطة وعشاق النفوذ لاسكات اهل الحق عن طريق الخداع او عن طريق القتل ثم صاغ احد خلفاء بني العباس هذه النظرية لاحقا تحت عنوان: ( لو نازعتني على الملك لاخذت الذي فيه عيناك).
الامر اللافت في المشهد ان الوليد بن عتبة على الرغم من انتسابه الى بني امية من جهة ويقينه بفقدان منصبه عند عدم اخذ البيعة من الامام الحسين عليه السلام ليزيد او عدم قتل الامام الحسين عند امتناعه عن البيعة من جهة اخرى الا انه لم يقدم على قتل الامام عليه السلام بل وجّه تعنيفا لمروان بن الحكم بعدما اشار عليه بعدم السماح للامام بالخروج من عنده في تلك الليلة الا مبايعا او مقتولا وجهر برفض الاستجابة لطلب يزيد بن معاوية الداعي لقتل الامام الحسين عليه السلام بقوله: لا والله، لا يراني الله قاتل الحسين بن علي, وأنا لا أقتل ابن بنت رسول الله، ولو أعطاني يزيد الدنيا بحذافيرها.
والحق ان موقف الوليد هذا يستحق مساحة اكبر لتحليله وتقويمه لاتتسع لها هذه المقالة فهو موقف الوليد قابل للاشادة وقابل للاقتداء ايضا من السياسيين والحكام لاسيما في الاوساط الشيعية ولو مال صدام حسين الى تجربة الوليد ولم يرجح راي مروان بن الحكم لما قتل الشهيد محمد باقر الصدر.
لقد القت هذه الاوضاع المضطربة ظلالها على المسلمين واحدثت انقسامات واضحة في مجتمع المدينة المنورة الذي انقسم الى كتل وجماعات اساسية اربع :
الكتلة الاولى تمثل الخط المحمدي العلوي بقيادة الامام الحسين بن علي عليه السلام وتضم اهل بيته وعدد محدود من الموالين وهي التي رفضت تنصيب يزيد خليفة للمسلمين علانية وجاهرت بالثورة على هذا الاجراء السلطوي وقد القى الامام الحسين عليه السلام بيان الثورة الاول بقوله للوليد بن عتبة : (مثلي لايبايع مثله) بما تحمل هذه الكلمة من امتدادات عابرة للزمان والمكان والامم والجماعات.
الكتلة الثانية : اتخذت هذه الكتلة طريق الرفض لبيعة يزيد ايضا ولكن الاهداف التي انطوى عليها هذا الرفض كانت اهدافا شخصية نابعة من الطموح بالسلطة والحكم؛ ويمثل هذا الاتجاه عبد الله بن الزبير فهو لم يبايع ايضا وخرج على يزيد حينئذ بالدعوة لنفسه .
الكتلة الثالثة: اعلنت قبولها بيعة يزيد بن معاوية وجاهرت بالتاييد له وهؤلاء هم الامويون وعلى راسهم مروان بن الحكم وبعض اهل المدينة الذين ادمنوا مماهاة السلطة الحاكمة وطاعتها بغض النظر عن كونها حكومة ظالمة او عادلة فهؤلاء لم يتخذوا موقفا مخالفا لحكومة بني امية وكثير من هذا الصنف يتواجد في الازمنة التي اعقبت بني امية الى يومنا المعاصر .
الكتلة الرابعة: الرافضون للبيعة بصمت تجنبا للاصطدام بالامويين ومن هؤلاء بعض الصحابة ولايخفى الغياب الغريب للانصار عن الحراك الاموي وصمتهم قبال حركة يزيد وماقابلها من مواجهة حسينية الامر الذي مكّن يزيد من السيطرة على مجريات الاحداث في المدينة ولم تشفع ثورة المدينة المتاخرة في ردع يزيد عن التمدد وبسط نفوذه على مكة والمدينة وقد مثل هذا المشهد تجربة ثرية للامم اللاحقة ودرسا مهما للاجيال القادمة وارسل رسالة بليغة مقتضاها ان التاخر عن اتخاذ المواقف الصحيحة ومواجهة الانحرافات تكون تكلفته عالية جدا.
https://telegram.me/buratha