الدكتور فاضل حسن شريف
عن المجتمع الانساني في القرآن الكريم للشهيد السيد محمد باقر الحكيم قدس سره: تـصور العـلامة الطـباطبائي: وأمـا الصورة الثانية: فهي التي عرضها العلامة الطباطبائي، وهي تختلف عن الصورة السابقة في بعض الجوانب، وتتفق معها في بعض الجوانب الأخرى، وسوف نقتصر على ذكر جوانب الخـلاف التي سبق أن أشرنا إلى بعضها:
1 ـ إن خليفة الله موجود مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار تزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات، لا يمكن أن تتم فيها الحياة إلاّ بإيجاد العلاقات الاجتماعية وما يستتبعها من تصادم وتـضاد فـي المصالح والرغبات، الأمر الذي يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء. 2 ـ إن آدم استحق الخلافة لقدرته على تحمل السر الذي هو عبارة عن تعلم الأسماء التي هي أشياء حية عاقلة محجوبة تحت حجاب الغيب محفوظة عـند الله، وقد أنزل الله كل اسم في هذا العالم بخيرها وبركتها، واشتق كل ما في السماوات والأرض من نورها وبهائها، وإنهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تـعدد الأفـراد، وإنّما يتكاثرون بالمراتب والدرجات. المـوازنة بـين الصورتين ويحسن بنا أن نوازن بين هاتين الصورتين لنخرج بالصورة الكاملة التي نراها صحيحة، لتصوير هذا الجانب من المقطع القرآني،
ولنأخذ النقاط الثلاث التي خـالف فـيها العلامة الطباطبائي الشيخ مـحمد عـبده. ففي النقطة الأولى: نجد العلامة الطباطبائي على جانب من الحق، كما نجد الشيخ محمد عبده على جانب آخر منه، ذلك لأن العلامة الطباطبائي أكد ما فطر عليه الإنسان من غرائز وشهوات وعواطف مـختلفة ـ وهـذا شيء صحيح أكده القرآن أيضاً ـ لما لهذه الغرائز من تأثير كبير في حركة الإنسان وحصول التزاحم والتنافس في المجتمع الإنساني، الأمر الذي يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء، وأساس هذه الغرائز غريزة حـب الذات التي جاءت بـها الأديان السماوية ومنها الإسلام من أجل توجيهها توجيهاً صالحاً، يدفعها إلى تجنب الفساد والسفك للدماء، ولذلك نجد القرآن الكـريم يؤكد دور الهوى ـ الذي يعبر عن طغيان هذه الغرائز ـ في الفساد وسفك الدمـاء. والشـيخ مـحمد عبده حين يغفل هذا الجانب في حقيقة الإنسان ـ وفي مسألة معرفة الملائكة للفساد، وسفك الدماء في الإنـسان ـ يـؤكد جانباً آخر له دور كبير أيضاً في الفساد وسفك الدماء، وهو الإرادة المطلقة المقرونة بالمعرفة النـاقصة، فـلولا هـذه الإرادة، ولولا هذا النقص في العلم، لما كان هذا السفك والفساد، ولذا لا نرى الفساد وسفك الدماء في عـباد الله المخلصين الصالحين، لأن علمهم بالمصلحة علم كامل مع وجود الغرائز والشهوات فيهم، وكذلك لا نـراه حتّى في عامة المـلائكة، وقـد يكون ذلك إما لعدم وجود الإرادة، أو وجودها ـ والله أعلم ـ مع عدم وجود الشهوات فيها والتضاد بينهم والله العالم. وعلى هذا الأساس يمكن أن نعتبر كلا الجانبين مؤثراً في معرفة الملائكة لنتيجة هذا الخليفة.
وفي النـقطة الثانية: نجد الشيخ محمد عبده يحاول أن يذكر أن الشيء الذي أثار السؤال لدى الملائكة، هو قضية أن هذا المخلوق المريد ذا العلم الناقص لابد أن يكون مفسداً في الأرض وسافكاً للدماء، ومن ثم فلا مبرر لجعله خليفة مـع تـرتب هذه الآثار والنتائج على وجوده. وأما العلامة الطباطبائي فهو يحاول أن يذكر في أن الشيء الذي أثار السؤال، هو أن الخليفة لابد أن يكون حاكياً للمستخلفِ (الله) وبدا لهم كأن هذا المخلوق لا يحكي هـذا المـستخلف، لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بخلاف الملائكة أنفسهم، حيث يمكن أن يحكوا المستخلف من خلال تسبيحهم وحمدهم. وفى هذه النقطة قد يكون الحق إلى جانب العلامة الطباطبائي، وذلك بقرينة أن التفسير والمـبرر الإلهـي، لهذه الخلافة كان من خلال بيان امتياز هذا الخليفة بالعلم، كما قد يفهم من الآية، وأشار إليه الشيخ محمد عبده، مع أن هذا المبرر لا ينسجم مع النقطة التي ذكرها الشـيخ عـبده، لأنـه افترض في أصل إثارة سـؤال المـلائكة وجـود العلم الناقص إلى جانب الإرادة؛ فكيف يكون هذا العلم ـ بالشكل الذي ذكره الشيخ محمد عبده أي علمه بالأشياء وهو علم ناقص على أي حـال ـ جـواباً لهـذا السؤال؟ نعم لو افترضنا أن العلم الذي علمه الله تعالى لآدم، هـو الرسـالات الإلهية الهادية للصلاح والرشاد والحق والكمال ـ كما أشار الشيخ محمد عبده إلى ذلك في نهاية النقطة الثالثة ـ فقد يكون جواباً لسـؤال المـلائكة، لان مـثل هذا العلم يمكن أن يصلح شأن الإرادة والاختيار، الذي أثار المخاوف ويـحد من الفساد وسفك الدماء، ولكن قد يقال: إن هذا خلاف الظاهر، لأن يفهم من ذيل هذا المقطع الشريف: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38]، إن هذا الهدى الذي هو الرسـالات الإلهـية الهادية، جاء بعد هذا التعليم لآدم. وأما لو افترضنا أن الذي أثار السؤال لدى الملائكة، هو الإرادة والاختيار فقط ـ كـما اخـتاره أسـتاذنا الشهيد الصدر قدس سره ـ أصبح بيان الامتياز بالعلم والمعرفة جواباً للسؤال وتـهدئة للمـخاوف التـي ثارت لدى الملائكة، لان هذا العلم الذاتي في الإنسان يهدي إلى الله تعالى، ويتمكن هذا الإنسان بـفطرته مـن أن يـسير في طريق التكامل الإرادي، الذي هو أفضل ألوان التكامل. وأما العلامة الطباطبائي فقد اعتبر الانـتماء إلى الأرض والتـزاحم بين المصالح فيها، هو الذي يؤدي إلى الفساد، ويكون العلم بالأسماء ـ حينئذ ـ طريقاً وعلاجاً لتـجنب هـذه الأخـطار، لأن الأسماء بنظره موجودات عاقلة حية.
https://telegram.me/buratha