الدكتور فاضل حسن شريف
قال الشيخ جلال الدين الصغير: يبقى علينا أن نستدل على توافر مواصفات الإمامة التي أشرنا إليها فيما سبق من حديث ضمن نص واضح يشير إلى مصداق هذه الإمامة في الواقع الاجتماعي، ولئن رأينا دلالة في جمل المناقب لا سيما آية الولاية، وآية البلاغ، وآية مودة القربى، وآيات الشهادة غيرها كثير، فإننا نجد في آية التطهير: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (الاحزاب 33) تشخيصا تاما ودقيقا لعصمة هذه الإمامة على مستوى المصداق والدور، حيث نلحظ أن العصمة في إمامة الوجدان ضرورة كضرورة عصمة إمامة التشريع وإمامة السياسة والحكم وإمامة الشهادة. من هذا كله يتبين لنا مرة أخرى التوافق التام ما بين المواصفات الفكرية والمعنوية والمصداقية لهذه الإمامة مع مواصفات الإمامات الثلاثة التي مرت علينا. الناظر للآيات التي تحدثت عن الوجود الكوفي يمكنه أن يقسمها إلى أقسام ثلاثة حيث سنجد القسم الأول وهو يتحدث عن بدايات النشأة وعلة الوجود كما في قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" (هود 7) فيما سنلحظ القسم الثاني وهو يتحدث عن الدور الذي سيضطلع به هذا الوجود كما في الآية الكريمة: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ" (لقمان 20). أو قوله تعالى "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الجاثية 13). فيما سنلحظ أن القسم الثالث تحدث عن كيفية الترابط ما بين دور الوجود وما بين الهدف المتوخى منه كما نرى في قوله تعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الاحزاب 72) أو قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات 56). وفي عملية البحث هذه لا بد وأن ننطلق من أصل الخلقة التي أكد القرآن أنها لم تنطلق في الفراغ، ولم تحصل نتيجة عبث "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ" (الدخان 38) وكذا قوله تعالى "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون 115)، وإذا ما كانت كذلك فثمة هدف يناقض العبث تماما، وهذا الهدف في صورته العامة عبرت عنه الآية الكريمة: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات 56)، وفي صورته النهاية: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر 99). وعليه فمن الجهل بمكان أن نتصور أن ما أودع في هذا الكون من نعم وما سخر الله للإنسان مما في السماوات والأرض بالصورة والمطلقة التي عبرت عنها الآيات الكريمة: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (ابراهيم 32-34) لمجرد لهبة والعطاء والأنعام المجرد من الغاية، بل تظهر خاتمة الآية الكريمة: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (ابراهيم 34) تداخل هذه المنح والايتاء مع مسؤولية المكلف في هذا الكون، فلا معنى لوجود كلمة الظلوم إلا في مصفا الحديث عن دور هذا المكان في هذا الوجود. قال الله تبارك وتعالى "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة 30) وحالة كهذه لا يمكنها أن تجعله مؤهلا لنبي لا أمانة لكنه حينما حملها فبسبب أنه تخلى عن الظلم والعبثية، ولهذا أصبح قابلا لنيل هذه الأمانة. ولهذا فليس من العبث أن نجد ترابطا ما بين خاتمة هذه الآية "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (ابراهيم 34) وبين طريقة تحقيق الهدف الرباني المعبر عنها في الآية الكريمة: "إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الاحزاب 72) حيث نجد أن هذه الطريقة التي عبر عنها بحمل الأمانة تعتبر الضد للظلم المشار إليه في خاتمة الآية: "إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الاحزاب 72) لتلتقي من بعد ذلك مع آية الإيتاء المارة، مما يعني أن كل هذه النعم التي آتاها الله سبحانه وتعالى خاضعة لمسار هذا الإنسان نحو تحمل الأمانة الكونية. وهو المعنى المرادف لعملية التسخير الربانية الشاملة الذي تحدثت عنه الآية الكريمة: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" (الجاثية 13) أو ما نعبر عنه بالولاية التكوينية. ويقدم القرآن الكريم لنا في هذا الصدر آيتين للتعرف على ذلك أما الأولى فهي: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" (هود 7) ففي هذه الآية نجد تعليل عملية الخلق مقترنة بوجود جهة أحسن العاملين، فقوله: "لِيَبْلُوَكُمْ" (هود 7) جعل بمقام الشرط للخلق، وذلك لوجود لام التعليل السابقة للفعل يبلوكم، وحيث تم الخلق، فمن البديهي أن نلمس أن جهة أحسن العاملين.
قال الشيخ جلال الدين الصغير: أن آية المباهلة "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" (ال عمران 61) قد دلتنا على التطابق الكلي بين نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع نفس الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ودلتنا آية الولاية "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55) على تطابق ولايتهما الشمولية، ودلتنا آية التطهير "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (الاحزاب 33) على تطابق عصمتهما، ودلتنا آية الراسخون في العلم "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" (ال عمران 7)على تطابق علومهما، ودلتنا آية من عنده علم الكتاب "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43) على تطابق شهادتهما، ودلتنا آية أولي الأمر "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (النساء 59) على تطابق وجوب الطاعة لهما، وغيرهما كثير. فعندئذ لا نجد أي عائق في الرضوخ لشأن امتداد هذه الإمامة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى من تطابقت مواصفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع مواصفاته، بل تلجئنا الضرورة العقلية والموضوعية إلى القول بأن غياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزمني والمكاني، لا يلغي الحاجة إلى وجوده الشريف في إمامة هذا الكون وحفظ وجوده، فهذا الوجود يتوقف عليه عدم وقوعهم في العذاب كما دلت عليه الآية الكريمة: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ" (الانفال 33) وعدم زوال الرحمة الإلهية للعالمين التي أشير إليها في قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ " (الانبياء 107) الأمر الذي يجعل امتداد إمامته إلى من بعده ضرورة لا مندوحة عنها. وهذا ما هو عليه اتجاه أهل البيت عليهم السلام المتمثل بمذهب الإمامية أعلى الله شأنهم، ولا يمكن لأي اتجاه آخر أن يحقق التوافق الموضوعي بين ما أشرنا إليه من استلزام امتداد إمامة التشريع وإمامة الولاية والحكم وإمامة الشهادة وإمامة الوجدان وإمامة الوجود التي أوليت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره الإمام الأكبر وضمن مواصفات النص والعلم، لما بعده، وذلك بسبب عدم تمكن العمر الزماني والمكاني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن يحقق الأغراض المرتبطة بها، إلا من طريق القبول بإمامة الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم وبقبول التفاصيل الإمامية في خصوص حياة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومن غير ذلك فخرط القتاد أهون من نيل المستحيل، أو التعسف في تفسير الآيات القرآنية الشريفة وتحميلها ما لا يحتمل وفي ذلك من الخيانة لله ولرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وليس أمامي بعد ذلك كله غير النصيحة الصادقة عبر قوله عز وجل: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الانفال 27-29).
https://telegram.me/buratha