الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله جلت قدرته "وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (هود 44) قال الشيخ جلال الدين الصغير: فبعد حصول الإعجاز وانتهاء أغراضه بواسطة العلل الغيبية، عادت علل العالم المادي إلى سابق عهد عملها. ويظهر من خلال جملة من الآيات القرآنية أن العوالم من وجهة نظر القرآن هي ثلاثة، وفي كل عالم من هذه العوالم نظام علية غيره الذي في العالم الآخر، وهذه العوالم هي: أ - العالم المادي: وهذا العالم هو العالم الذي نحياه، ونظام العلية فيه هو ما نألفه ب - عالم الجن: وهذا العالم تحدث عنه القرآن الكريم في مواضع متعددة ومن خلاله نجد أن سنخية علله تغاير التي في عالمنا المادي، ونظام الخلقة غير ما عالمنا، فهم مخلوقات خلقت من مارج من نار، بمعنى أنها قد تكون لها لطافة النار، ومن خلال الوصف القرآني فإن هذه المخلوقات وإبليس من بينها تتمتع بمزايا تتفوق من بعض الجهات على مزايانا في عالمنا المادي، كأن تكون قادرة على التسلل إلى النفس الإنسانية لتوسوس لها وتمنيها، وإن تكون قادرة على التصرف مع مسائل الزمان والمكان بقدرات أكبر من القدرات الإنسانية، كما توحي إليه الآية الكريمة في قصة عرش بلقيس "قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ" (النمل 39)، وهكذا بقية ما تصفه العديد من الآيات والروايات المعنية بالحديث عنها. ج - عالم الملكوت: وهو العالم الذي له مواصفات تختلف كلية عن مواصفات العالم المادي، وهو الذي يكون ساحة عمل الولاية التكوينية، وسيأتي تبيان بعض خصائصه في متون الحديث. ففي مسألة عالم الجن يبدو أن الأمر متاح دون ضرورة لتدخل اللطف الإلهي، وهذا ما يشير إليه تسخير سليمان عليه السلام للجن، وكذا ما تشير إليه الآية الكريمة "وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا " (الجن 6)، أما بالنسبة لعالم الملكوت، فإن الظاهر أن ثمة منزلة روحية ينبغي عروج الروح إليها كي يمكن خوض عبابه، وهذه المنزلة لها سلم تصاعدي وبالعكس، فالآية الكريمة التي تتحدث عن قصة بلعم بن باعوراء، تشير إلى أن بلعم هذا سبق له أن رقى روحيا إلى هذه المنزلة ولكنه سقط منها "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ" (الاعراف 175) كما يظهر التمعن فيها.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: نريد أن نتوصل إليه هنا هو هل أن ولاية الله جل وعلا على كل شئ بمعنى تصرفه وتسلطه على كل شئ قابلة لأن تمنح لغيره بالتبع أو لا يمكن ذلك؟ ويتبدى لنا هنا وفي أول وهلة، أن الله سبحانه هو الولي المطلق على كل مخلق، والقرآن يفيض بالآيات التي تتحدث عن ذلك كما في قوله تعالى: "هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا" (الكهف 44) وقوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۚ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" (التوبة 116) وقوله تعالى: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ" (السجدة 4) وقوله تعالى: "أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۖ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (الشورى 9) وقوله تعالى: "وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِنۢ بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُۥ ۚ وَهُوَ ٱلْوَلِىُّ ٱلْحَمِيدُ * وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍۢ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌۭ * وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍۢ * وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا نَصِيرٍۢ" (الشورى 28-31) وغير بذلك من الآيات التي تشير بما هو مفروغ عنه بأن لله الولاية الحق، ومحض أن تكون له الولاية، فلا محذور من أن يلي من أمره ما يشاء فهو صاحب الأمر وما أولاه لغيره، إنما يعبر عن كمال ولايته، وهذا الأمر نجده يتجلى في العديد من الآيات التي تحدثت عن أن الله جل وعلا قد أولى جملة من الخلائق بعضا من شؤون ولايته كما نجد ذلك في الآيات التي تتحدث عن الملائكة، فبعضها خصص لشؤون الوحي كما يشير إليه قوله تعالى: "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الشورى 51).
https://telegram.me/buratha