الدكتور فاضل حسن شريف
قال الشيخ جلال الدين الصغير في كتابه الامامة ذلك الثابت الاسلامي المقدس: وحين يكون ولي الأمر معصوما فلا بد من ورود نص فيه، ولذلك لأن العصمة لا تشخصها إلا الجهة التي تهب العصمة، أو من هي في مقام العصمة بحيث تصلح شهادتها بوجود العصمة، وبغير ذلك لا يمكن تشخيص العصمة لأن المقامات الرفيعة والسامية لا يمكن تشخيصها من قبل من لم يصل لمقام الرفعة والسمو، وفق القاعدة العقلية: فاقد الشيء لا يعطيه. وكذلك لا بد من تعرّف الناس على هذا المعصوم، حيث أن مقام العصمة إنما وجد فلأسباب عديدة منها حاجة الناس إلى المعصوم، ولا يمكن قضاء هذه الحاجة والناس لا تعرف موضعها. وما من شك أن هذا التشخيص لا بد وأن نجد صداه في مشخصات الولاية في القرآن، ولهذا نعتقد أن الآية الكريمة: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55) تقدم دلالات جوهرية على هذا الصعيد، فالولاية المتحدّث عنها في هذه الآية تتفق في مؤدياتها العامة مع نفس المؤديات التي تتوقف على الطاعة التي تحدثت عنها الآية السابقة، فالطاعة لا تمنح إلا لمن له الولاية على المطاع، ولا يمكن تصوّر من لا حق له في الولاية على شيء يُعطى حق الطاعة والتبعية من ذلك الشيء إليه، ولهذا فإن هذه الآية الكريمة تعتبر دلالاتها حاسمة في مجال تشخيص مصاديق الآية السالفة، لا سيما وإننا نلمس اتفاقها مع الآية السابقة في التطابق مع المواصفات الأربع التي قلنا أنها ضرورية في تشخيص الإمامة، فمثلما رأينا أن البارئ عز اسمه أوقف الطاعة في الآية الأولى على المعصوم، فإننا لا يمكننا أن نتصور منحه ولايته إلا لمن اتسم بالعصمة، حتى لا تساء الاستفادة منها إن منحت لغير المعصوم. ومثلما لاحظنا في آية أولي الأمر كيف يتحدد نسق الامتداد من طاعة الله إلى طاعة الرسول ومن بعده إلى ولي الأمر، نجد هنا في آية الولاية تتابع نفس النسق، ومثلما رأينا الحدية في تنظيم آلية الطاعة في الآية الأولى نرى نفس الآلية تقرر في مجال الولاية، ومثلما لاحظنا أن الجهة المأمورة في آية الطاعة تتخذ كمالها في صيغة انتمائها إلى حزب الله، نلحظ آية الولاية تعطينا نفس الصورة حينما تتحدث عن نفس الجهة "وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" (المائدة 56) مما يؤكد أن جهة الطاعة والولاية هما جهة واحدة، وحيث أنه لا يمكن طاعة جهة لم تشخص بشكل دقيق من قبل المولى عز وجل، كذلك لا يمكن للموالي التسليم لولاية جهة لم يتم تشخيصها من قبل صاحب الولاية الأصلي تبارك اسمه. ولهذا فإننا إذ نجد كل هذا التطابق فلا بد من أن تكون كل واحدة من هاتين الآيتين كاشفة لما في الآية الأخرى. وعليه فلا يمكننا ولا بأي شكل من الأشكال تصور سبب نزول الآية الثاني منعزلا عن تشخيص العامل الحاسم في الآيتين وأعني بذلك تشخيص من نص عليه في شان الولاية السياسية، خاصة وأن آية: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ" (المائدة 55) تتحدث عن الولاية بشكل مطلق فيما تقيده آية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ" (النساء 59) في شأن السياسة والحكم ومتعلقاتهما. هذا وقد اتفق المسلمون على أن مورد نزول آية "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55) كان أمير المؤمنين عليه السلام في القصة المعروفة بتصدقه بالخاتم أثناء الصلاة. ومهما تمحّل القوم من أهل العامة في تفسير وجود أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الآية، إلا أن من الواضح أن القرآن لم يأت على ذكر أمير المؤمنين عليه السلام اعتباطا، خصوصا في آية تتحدث عن قضية عظيمة كهذه، ولا يمكنهم بأي حال من الأحوال إن أرادوا الابتعاد عن التمحلات والتخرصات ـ أن يفسروا دلالتها وما سبقها من آية الطاعة على العصمة، غير الرضوخ لمنطق أهل البيت صلوات الله عليهم في تخصيص الآية ومدلولها بهم صلى الله عليهم أجمعين وهذا هود مورد إجماع ما روي عنهم. وبهذه الآية يكتمل عقد المواصفات المطلوبة للإمامة السياسية حيث رأينا كيف تجتمع صفات الامتداد والتشخيص والعصمة والنص في شخصية واحدة، وكيف تجتمع هذه الإمامة بشخصها مع من شخّص لإمامة التشريع.
وعن الامامة الشاهدة يقول الشيخ جلال الدين الصغير: الملاحظ في شأن الإمامتين الخاصة بالتشريع والسياسة أنهما تشملان مهمة الإنذار والتبشير التي جعلت من ضمن المهام الجوهرية لعملية الهداية الربانية، ومن يلاحظ حديث القرآن عن ذلك يجد أنه قرن مع هاتين المهمتين مهمة ثالثة حينما عبّر بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" (الاحزاب 45). وكذا قوله: "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" (الفتح 8)وحيث رأينا توافق إمامتي التشريع والسياسة مع مهمتي الإنذار والتبشير فهل سنعثر على شاهد قرآني يكمل عملية التوافق هذه ويمدّها إلى الإمامة الشاهدة؟. وإن عثرنا على ذلك فهل ستكون هذه الإمامة بنفس المواصفات التي استعرضناها فيما سبق؟. وإذا ما تطابقت هذه الأوصاف فهل ستتفق في نفس الشخص؟. ضمن ما افترضناه سابقا فلا بد من العثور على ذلك بأجمعه، لا سيما وأن شأن الشهادة لا يمكن القول بأنه قد استوفى أغراضه أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا حاجة له فيما بعد ذلك، فلو: رجعنا للغايات الإلهية التي تقف وراء الشهادة والتي تشير إليها الآية القرآنية الكريمة: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ" (الاعراف 172)لوجدنا أن طبيعة إلقاء الحجة الربانية كاملة على بني آدم لا تتوقف عند قوم دون آخرين، وإنما يجب سريانها على جميع الأقوام والأمم، وذلك لأن هذه الغاية رافقت البنية التكوينية لبني آدم، ولذا فإن من الطبيعي بمكان أن يتلازم بقاء الجنس البشري مع بقاء هذه الحجة، وإن انتفاء أحدهما يستلزم انتفاء الثاني لاستحالة أن يقال أن الإرادة الربانية إرادة عابثة في مخلوقاتها. ولا اعتقد أن ثمة عسر في الوصول إلى تلازم آخر، وهو تلازم الشهادة مع وجود المعاينة، فليس من معنى للشهادة بمعزل عن أن يكون الشاهد معاينا لم سيشهد به، ومع هذا الحال يتبدى للوهلة الأولى أن ثمة تناقض بين هذا المفهوم، وبين مفاد الآيات التي أشارت إلى شاهدية الرسول، وقد أشير إلى هذه الشاهدية بمعنى مطلق، الأمر الذي يعني أن شهادة الرسول لا تتوقف عند زمانه فحسب، بل هي تمتد إلى ما بعد زمانه الشريف بالمصاف مع إنذاره وبشارته صلى الله عليه وآله وسلم.
يستطرد الشيخ الصغير قائلا: ولا يمكن حل هذا التناقض ألا بالقول بأن الشهادة دور ومهمة، وهذه المهمة يمكن أن توكَلَ إلى وكيل هو كالأصيل في إتمام هذا الدور، نتيجة لتحقق خصائص ومواصفات الشهادة في شخصيته، وهذا ما يلتقي أيضا مع جملة من الآيات القرآنية التي أشارت إلى وجود شهادات سابقة لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما في الآية الكريمة: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" (النساء 41) وكذا في قوله تعالى: "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ" (النحل 89) وهما يشيران وبوضوح إلى وجود شهادة لأنبياء ورسل وأوصيا الأمم، واعتبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشاهد على هؤلاء جميعا، وحيث أن الرسول لم يكن حاضرا في حياة تلك الأمم، ولهذا لا يمكن فهم هذه الآيات إلا من خلال اعتبار شهادات الأنبياء عليهم السلام)في طول شهادته صلى الله عليه وآله وسلم أي هي شهادات وكلاء تتجمع لدى الوكيل الأصيل، وهذه الأخيرة ـ أي شهادته على الأمم السابقة ـ والتي تلتقي مع مفهوم كونه سيد الأنبياء والمرسلين، تستلزم أن يستمر دور الشهادة إلى الأمم اللاحقة لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو شاهد على جميع الأمم، وهذا ما يلتقي مع مفهوم نظرية النص الإلهي التي تعتمدها الإمامية، والتي تعني استمرار دور شاهدية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من خلال شهادة الأئمة عليهم السلام على مجتمعاتهم، ومن دون ذلك فإن الحديث عن استمرارية دور الرسول في الشهادة يغدو فارغا من محتواه، وذلك لاستلزامها لمواصفات لا يمكن أن توجد عند أحد غيرهم.
https://telegram.me/buratha