الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب الامامة ذلك الثابت الاسلامي المقدس لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: وعليه فمن الجهل بمكان أن نتصور أن ما أودع في هذا الكون من نعم وما سخر الله للإنسان مما في السماوات والأرض بالصورة المطلقة التي عبرت عنها الآيات الكريمة: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (ابراهيم 32-34) لمجرد لهبة والعطاء والإنعام المجرد من الغاية، بل تظهر خاتمة الآية الكريمة: (إن الإنسان لظلوم كفار) تداخل هذه المنح والإيتاء مع مسؤولية المكلف في هذا الكون، فلا معنى لوجود كلمة الظلوم إلا في مصاف الحديث عن دور هذا المكلّف في هذا الوجود. وهذا النعم التي لا تحصى مما يحسّ في الحياة، ومما لا يحسّ تقضي بوجود ثلاث حالات انسجاما مع ما يعكسه مبدأ الحجة البالغة لله وهما: الحالة الأولى: تقضي بوجود العالم المطلع على هذه النعم بكل تفاصيلها، وقابليتها للتسخير حتى يكون شاهدا لله جلت آلاؤه. الحالة الثانية: والحاجة إلى وجود هذا العالم الشاهد تقتضي أن يكون شاهدا موجودا منذ الوهلة الأولى لخلق هذه النعم وعالم المسخرات. الحالة الثالثة: بوجود المسخّر الإنساني الشامل الذي يكون مصداقا إنسانيا لبقية الخلق بإمكانية التسخير من جهة، وحجة على عالم التكليف بواقعية النعمة الربانية الشاملة التي لا تحصى من جهة ثانية. ولكن هذا الأمر هل يمكن له أن يتم بعبثية خالية من الهدفية؟ وهل يمكن إتمامه من دون الخضوع لمواصفات تأهيلية؟. من الطبيعي أن يتم ذلك وفق مواصفات تأهيلية، لأن هذا الإنسان في صورته التكوينية الأولى سبق وأن وصف وصفا دقيقا وفقا لمقتضياته التكوينية من قبل الملائكة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" (البقرة 30) وحالة كهذه لا يمكنها أن تجعله مؤهلا لنيل الأمانة لكنه حينما حملها، فبسبب أنه تخلى عن الظلم والعبثية، ولهذا أصبح قابلا لنيل هذه الأمانة.
واستطرد الشيخ الصغير قائلا: ولهذا فليس من العبث أن نجد ترابطا ما بين خاتمة هذه الآية "إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (ابراهيم 34) وبين طريقة تحقيق الهدف الرباني المعبر عنها في الآية الكريمة: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الاحزاب 72) حيث نجد أن هذه الطريقة التي عبر عنها بحمل الأمانة تعتبر الضد للظلم المشار إليه في خاتمة الآية : "إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الاحزاب 72) لتلتقي من بعد ذلك مع آية الإيتاء المارة، مما يعني أن كل هذه النعم التي آتاها الله سبحانه وتعالى خاضعة لمسار هذا الإنسان نحو تحمل الأمانة الكونية، مما يعني أن من تحمل هذه الأمانة وضع تحت تصرفه جميع ذرات الكون، وهو المعنى المرادف لعملية التسخير الربانية الشاملة الذي تحدثت عنه الآية الكريمة: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" (الجاثية 13) أو ما نعبر عنه بالولاية التكوينية. وعندئذ فمن البديهي بمكان أن نلاحق الإمامة الكونية من خلال الجهة التي حملت هذه الأمانة، لنكتشف معها حقيقة ارتباط وجود الكون مع وجود هذه الإمامة، وان انتفاءها من الوجود مدعاة لنفي الوجود برمته. ويقدّم القرآن الكريم لنا في هذا الصدد آيتين للتعرف على ذلك، أما الأولى فهي: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" (هود 7) ففي هذه الآية نجد تعليل عملية الخلق مقترنة بوجود جهة أحسن العاملين، فقوله: "لِيَبْلُوَكُمْ" جعل بمقام الشرط للخلق، وذلك لوجود لام التعليل السابقة للفعل يبلوكم، وحيث تم الخلق، فمن البديهي أن نلمس أن جهة أحس العاملين كانت موجودة قبل خلق الخلق، إذ لا يعقل تخلّف العلة عن المعلول، وها ما تؤكده الآية الثانية التي تحدثت في نفس الاتجاه، ففي آية الإمامة المارة نلحظ أن أمانة الوجود الكوني قد عرضت على سائر الموجودات الكونية فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، ولكن حملها ذلك الإنسان الذي لا يتصف بالظلم والجهل ولم يقاربهما بحيث وصل به الكمال إلى درجته القصوى، وهو نفس المعنى الذي يؤدي إليه مصطلح أحسن العاملين، ومن ثم ليكون هذا الإنسان هو المعادل الوحيد لوجود الأمانة، إذ لولاه لما حملت الأمانة، ولولا حمل الأمانة لما خلق الكون وما فيه. إذن فإن من البداهة بمكان أن ترضخ عملية التسخير بكاملها لهذا الإنسان ويكون وجودها مرتبط بوجوده. وهذا ما يدلنا بطبيعته على جملة من المواصفات التي تركزت في هذا الإنسان، فمن حمله للأمانة وابتعاده عن الظلم والجهل نستدل على عصمته المطلقة، ومن خضوع عملية التسخير له نستدل على الطبيعة العلمية الشاملة والكاملة التي يتمتع بها، ومن هذه الطبيعة نستدل على أن هذا العلم كان مختصا به من قبل الله عظمت آلاؤه، وحيث نجد ذلك فلا بد من القول بوجود النص عليه. وثمة شيء آخر، فحيث إن العطاء الرباني لم يبلغ ـ في المضمار الواقعي ـ إلى عالم التكليف من مداه إلا المقدار البسيط منه، فيما نجد إن الحديث الإلهي عظيم عنه، فلا بد من وجود الشاهد الذي يستطيع أن يرى هذا العطاء العظيم المخصص لهذا العالم، ليكون شاهدا على وجوده من جهة، وشاهدا على الإمكانات المتاحة فيه الصالحة للسخرة من جهة ثانية، وشاهدا على طبيعية التسخير الجارية في عالم التكليف، ومن ثم حكما عليها من جهة ثالثة.
قال الشيخ جلال الدين الصغير: الأمر الذي يحتّم أن يكون لهذا الوجود إمامة خاصة به وتلتقي مع سائر الصفحات المكونة لعملية الهداية الربانية وعليه فإن من الواجب أن يكون هذا الشخص هو نفسه في الإمامات السابقة. وما من شك في اتفاق أهل الإسلام جميعا على إن هذا الإنسان هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث أن آية المباهلة "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" (ال عمران 61) قد دلتنا على التطابق الكلي بين نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع نفس الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ودلتنا آية الولاية "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55) على تطابق ولايتهما الشمولية، ودلتنا آية التطهير"إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (الاحزاب 33)على تطابق عصمتهما، ودلتنا آية الراسخون في العلم "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (ال عمران 7) على تطابق علومهما، ودلّتنا آية من عنده علم الكتاب "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43) على تطابق شهادتهما، ودلتنا آية أولي الأمر "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" (النساء 59) على تطابق وجوب الطاعة لهما، وغيرهما كثير.
https://telegram.me/buratha