الدكتور فاضل حسن شريف
واستمر الشيخ جلال الدين الصغير عن امامة الآخرة قائلا: وكل ذلك يثير أمامنا من جديد أهمية التعرف على هذا المؤذن، حيث أن من الواضح أن تشخيص هويته سيزيح عنا الغطاء عن ماهية إمام الحساب. سواء قلنا بأن هذا الدور قد أعطي للمؤذن على نحو المباشرة، أو قلنا بأن هذا الدور قد منح له بتوكيل من جهة أخرى غير الجهة الربانية المقدسة. ولو قلنا بتطابق الآيتين من حيث تشخيص هذا المؤذن، أو تابعنا الأمر في السنة النبوية وفقاً لأمر أمير المؤمنين عليه السلام في حالات من هذا القبيل: لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولوا، ولكن حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا. فالأمر سيان على مستوى الدلالة. فمن الواضح أن مؤذن سورة البراءة الذي مر كان أمير المؤمنين عليه السلام وعلى ذلك أجمعت الخاصة والعامة، ويسير قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعليله لسحب كتاب البراءة من أبي بكر في ثنايا القصة: لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني، أو ما ورد بلسان جبرائيل عليه السلام: لا لن يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك.إلى أن الأذان الذي تتحدث عنه الآية كان من صلب دور الإمامة، ومفروغ عنه أنه من متطلبات الوحي، وبالتالي فإننا لو لحظنا طبيعة مهام المؤذن هنا ولمسنا طبيعة البشارة التي يسوقها إلى الناس بقوله: "فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" (التوبة 3) وكذا الإنذار الذي يوجهه إليهم: "وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (التوبة 3) وهما من المقتضيات العامة لمهمة الهداية الربانية، ومن الطبيعي أن يقال: إن إبلاء مثل هذا الدور يستدعي وجود النص بصاحب هذا الدور.
واستطرد الشيخ الصغير قائلا: إننا لن نعدم ملاحظة تطابق نفس الدورين بين مؤذن الدنيا (الذي أوجده النص الملحوظ في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ( لن) يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني) وجعل ظرف أدائه له عدلا للرسالة، وبين مؤذن الآخرة، لا سيما وأن هذا المؤذن لا يمكنه أن يتحدث بأمر من هذا القبيل من دون تسلط كامل وقدرة كاملة عليه. ولو تابعنا الأمر من خلال المواصفات التي طرحتها الإمامات الأخرى فسنجد اكتمالا في صورة إمام الآخرة، فهو الذي أعطى ضمن إمامة التشريع الصورة المعيارية للأعمال فهذا حلال وذاك حرام. وهو الذي نراه في إمامة الوجدان معيارا في تشخيص سلامة البواعث الإرادية (النوايا). وهو الذي نجده في الإمامة الشاهدة رقيبا على هذه الأعمال. وكل ذلك يعطيه بطبيعة الحال دور الحاكم الشاهد.. حيث نجده هو الذي حدد للمكلفين صورة العمل، وهو الذي أبلغ بوجود الجزاء عليه، وهو الذي كان شاهدا على اتجاهه، وهذا الأمر يتطابق مع الدور الرباني في هذا المجال، ويتطابق مع مفهوم الحجة البالغة التي من شأنها أن تخرس ألسن المعترضين، وتسقط حجج المتخاصمين. ولربما تطرح الآية الكريمة: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55) طرافة في المعنى هو ما نحتاجه في هذا المجال حيث أن التطابق بين الدورين، لا يعني إبلاء الله عظمت صفاته عالم الحساب والجزاء لغيره، ولكن آية الولاية هذه تظهر أن كل نمط من أنماط ولاية الله قد أذن الله في تمكين رسوله منه، والى من وصفتهم الآية الكريمة بالذين آمنوا، ولا شك أن ولايته على عالم الحساب والجزاء هي إحدى هذه الولايات.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: وأيا كان فإن آية المؤذن تطرح جهة لعالم الحساب غير الجهة الإلهية، ومواصفاتها كما عرفنا متطابقة مع مواصفات بقية الإمامات من حيث العصمة والنص والتشخيص، ولهذا فليس من الغرابة بمكان أن نرى إجماع روايات أهل البيت(عليهم السلام وعدد من روايات أهل السنة على تشخيص مؤذن الآخرة بشخص أمير المؤمنين عليه السلام، كما في صحيحة أحمد بن عمر الحلال رضوان الله تعالى عليه فيما رواه ثقة الإسلام الشيخ الكليني أعلى الله مقامه الشريف في الكافي الشريف بإسناده عن الحسين بن محمد، عن المعلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عنه قال: سألت أبا الحسن عليه السلام وهو الإمام الكاظم عن قوله تعالى: "فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (الاعراف 44) قال: المؤذن أمير المؤمنين عليه السلام. وكذا ما في الصحيحة التي يرويها الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره، عن أبيه، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن عليه السلام قال: المؤذن أمير المؤمنين صلوات الله عليه يؤذن أذانا يسمع الخلائق كلها، والدليل على ذلك قول الله عز وجل في سورة البراءة "وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" (التوبة 3) فقال أمير المؤمنين عليه السلام: كنت أنا الأذان في الناس. ويحسم الأمر بين الناس، ويتجه بأهل الجنة إلى جنتهم، وأهل الناس إلى نارهم، ومن المثير أن ثمة جهة متخصصة في الحسم في يوم الجزاء، وهو ما يؤكده قوله تعالى: "وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ۚ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ۚ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۚ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ" (الاعراف 46-50) مما يعني وجود ضرورة للتطابق ما بين الجهتين.
https://telegram.me/buratha