الدكتور فاضل حسن شريف
عن امامة الآخرة يقول الشيخ جلال الدين الصغير: هذه المواصفات تظهر أن رجال الأعراف لهم مزية روحية خاصة وعظيمة، بحيث نرى في مثل هذا اليوم الذي وصف بأنه يجعل الولدان شيبا "فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا"( المزمل 17) وبه تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى فيه الناس سكارى من ذهول الرعب والفزع وما هم بسكارى، ولكن عذاب المنتقم الجبار، وغضب الحليم أشد مما يمكن للشدة أن تتحمله من معان، ولكن رغم هذا لهول تراهم لا يتكلمون على جهة القضاء كما في أذان المؤذن بين القومين فحسب، بل تراهم يتصرفون بالجزاء تصرف من له الصلاحية فيه أيضا كما عبر عن ذلك أمرهم لأصحاب الجنة أن يدخلوا الجنة، بعد سلامهم عليهم وتهنئتهم بما فازوا به، وهذا الحال يتناغم تماما مع مصداق الآية الكريمة: "يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا" (طه 109) ومع مصداق الآية الكريمة: "يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا" (النبأ 3) وبطبيعة هذه المواصفات تسقط جميع ما تقوله أهل العامة ومعهم تيار الانحراف في تصوير أهل الأعراف بصورة لا تنسجم مع هذه المواصفات. ومع هذا الوصف نجد أن خصائص الإمامة تنطبق جميعها عليهم، فهم كما رأيناهم في طبيعة المؤذن، وكما رأيناهم في طبيعة مقاضاتهم للمستكبرين، وكما لاحظناهم في حكمهم لأهل الجنة بالجنة لا بد من أن يكونوا من أهل العصمة، وهذا المقام لم يكن ليكون إلا باجتباء خاص من الله الذي أذن لهم بالحساب والجزاء، وهذا بجميعه كما رأينا يلتقي مع مقتضيات الإمامات السابقة. وكل ذلك يلتقي مع ما توافقت عليه روايات أهل البيت عليهم السلام في شأن تحديد هوية أصحاب الأعراف، فقد جاء في صحيحة محمد بن الحسن الصفار أعلى الله مقامه فيما حدثه به أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله: "وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ" (الاعراف 46)؟ قال: أنزلت في هذه الأمة، والرجال هم الأئمة من آل محمد. قلت: فالأعراف؟ قال: صراط بين الجنة والنار، فمن شفع له الأئمة منا من المؤمنين المذنبين نجا، ومن لم يشفعوا له هوى.
ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: وكذا ما رواه بسنده عن علي بن إسماعيل، عن صفوان بن يحيى، عن اسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: "وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ" (الاعراف 46) قال: هم الأئمة من أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وكذا ما في صحيحة سعد بن عبد الله الأشعري طيب الله ثراه، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي هاشم، عن أبي سلمة بن مكرم الجمال، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: "وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ" (الاعراف 46) قال: (نحن أولئك الرجال؛ الأئمة منا يعرفون من يدخل النار، ومن يدخل الجنة، كما تعرفون في قبائلكم الرجال منكم يعرف من فيها صالح أو طالح). وكذا صحيحة محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اله عز وجل: "وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ" (الاعراف 46) فقال : هم الأئمة منا أهل البيت عليهم السلام في باب من ياقوت أحمر على سور الجنة، يعرف كل إمام منا ما يليه. فقال رجل: ما معنى وما يليه؟ فقال: من القرن الذي هو فيه إلى القرن الذي كان. وكذا ما رواه الثمالي رحمه الله عن أبي جعفر الباقر عليهم السلام في حديث يقول فيه ابن الكواء لأمير المؤمنين عليه السلام: يا أمير المؤمنين "وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ" (الاعراف 46) قال: نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن أصحاب الأعراف نوقف بين الجنة والنار، فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: الحديث المتواتر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في خطابه لأمير المؤمنين عليه السلام أو عن أمير المؤمنين عليهم السلام نفسه بألفاظ متعددة متفاوتة لكنها تؤدي هذا المعنى: علي قسيم الجنة والنار، وبلفظ ابن جحر الهيتمي فيما رواه عن عنترة، عن علي الرضا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال له: أنت قسيم الجنة والنار فيوم القيامة تقول النار هذا لي وهذا لك. وغير ذلك من الروايات التي وردت عن طرق العامة والتي تؤكد نفس المعنى والمضمون، أما ما روته الشيعة في هذا المجال فحّدث ولا حرج. ويتفق هذا المعنى مع مجموعة كبيرة جدا من الروايات التي قرنت الإمام عليهم السلام بالكثير من صوالح الأعمال التي تفضي قطعا إلى الجنة وتبعد عن النار، لتجعله المصداق الاجتماعي الأكمل للمعايير التي يحتكم إليها في شأني الحساب والجزاء في يوم القيامة، كما في قوله صلوات الله عليه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق). ونفس الأمر نجده مثلاً في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشير إلى أمير المؤمنين عليه السلام: أنا وهذا حجة على أمتي يوم القيامة. وعلى أي حال فثمة عشرات من الروايات التي وردت في كتب العامة فضلاً عن الخاصة وهي تتحدث بصورة مباشرة أو بدلالة القرينة الإلتزامية عن وجود إمام للآخرة يتولى حساب الخلق ويوفيهم جزاءهم، ومن الطبيعي القول بأن ذلك إنما يتم فبإرادة من الله لأنه أوقع للحجة، فالمصداق الاجتماعي للحق هو الذي يُقايَس الناس وفقاً لقيمه ومعاييره، فما توافق معه كان إلى الجنة حيث وعد الله تعالى، وما تناقض معه كان إلى جهنم حيث أنذر الله تعالى.
https://telegram.me/buratha