الدكتور فاضل حسن شريف
ومن كتابه من عنده علم الكتاب قال الشيخ جلال الدين الصغير عن معنى الشهادة في القرآن الكريم: وطبيعة الأشياء تظهر لنا حقيقة أن الأمر المطلوب بالشهادة عليه كلما كان أكبر، كلما احتجنا إلى مواصفات عليا في ملكات العلم والحياة والعدالة، ولئن كان أمر العلم والعدالة بينا، فإن ثمة مشكلة تبدو أمام البعض في شأن حياة الشاهد، وهو يرقب شهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فمن الواضح أن الرسول قد أوكلت إليه مهمة الشهادة على أمم الأولين والآخرين لقوله تعالى: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" (النساء 41)، وكانت من جملة أبرز مهمات نبوته الشريفة أنه قد أرسل شاهدا لقوله جل وعز: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" (الاحزاب 45)) وكذا قوله تعالى: "إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ" (المزمل 15) فمن الذي سيقوم بدور الشهادة من بعده على أمته؟ فها هو عيسى عليه السلام ما إن يتوفاه الله إليه حتى يعلن انتهاء شهادته كما في قوله: "قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (المائدة 116-117) خصوصا وأن الشهادة على أمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تحتاج إلى مواصفات أعلى من مواصفات الشهداء السابقين في ملكات العدالة والعلم، وحيث أن العلم الموكل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس هو من سنخ العلوم البشرية العادية حتى يمكن تحصيله مع الجد والاجتهاد، وإنما هو فوق العلوم البشرية، بالشكل الذي من شأنه أن يكون حاكما على كل شئ بما فيها العلوم البشرية نفسها، كما أن العدالة المطلوبة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هنا هي في مصاف العصمة، وهذا ما يقتضي أن يكون المتمم لدور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شهادته على أمته له من العلم ما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وله من العصمة الواجبة في هذا المجال عين ما لدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث إن جهة الحياة لا يمكن تأمينها من خلال فرد واحد، لهذا لا بد وأن يتعلق الأمر بجهة، أفرادها يتساوون في هذه الملاكات من حيث الأصل، وهذه الجهة يمكن لها أن تستمر بأداء دور الشهادة، من خلال التعاقب الحياتي.
واستطرد الشيخ الصغير قائلا: ومن خلال حقيقة أن دور الشهادة ليس بالشئ الهين الذين يمكن للقرآن أن يتجاوزه من دون توضيح، الأمر الذي يتضح معه أنه لا بد من العثور على ما يكشف هذا الغموض، وما وجدت آية تتكفل حل هذا الغموض بمجموعة كما وجدت في آخر آية من سورة الرعد حيث يقول جل من قائل: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43)، ونظرا لهذه الخصوصية فقد تناولتها ثقافة التحريف على نطاق واسع بمحاولة تزييف مفهومها، وتعويم دلالاتها.
وعن الشاهد يقول الشيخ جلال الدين الصغير: تتحدث الآية الكريمة (الرعد 43) عن جملة موضوعات أبرزها وجود الشاهد الذي يشهد لرسالة الرسول، وكون هذا الشاهد عنده علم الكتاب، وقد خاض مفسروا العامة جدلا محتدما حول هوية هذا الشاهد، وتبعا لذلك اختلفوا في الموقف من هوية هذا الكتاب الذي وصف هذا الشاهد بأن لديه علمه، فهل هو علم اللوح المحفوظ فيتناسب مع الكتاب المشار إليه في الآية الكريمة: الذي عنده علم من الكتاب "قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ" (النمل 40) أم أن المراد به القرآن الكريم؟ أم أن المراد به هو كتب أهل الكتاب؟ وتبعا لذلك أيضا اختلفوا في أن سورة الرعد ومعها هذه الآية الكريمة، أو بمعزل عنها كانت مدنية أو مكية، وقد خاض التعصب الطائفي والمذهبي بدلوه بصورة غدت فيه بعض صفحات الحديث عن ذلك مثيرة لعجب، ومن مهمتنا هنا أن نخوض في هذا الحديث كي نستجلي الصورة المطابقة للفهم القرآني.
وعن سورة الرعد مكية أم مدنية؟ يقول الشيخ الصغير: اختلف المحدثون التفسيريون في موضع نزول سورة الرعد، فهل أنها نزلت في مكة أم في المدينة؟ وثمرة البحث في هذه المسألة هنا تتعلق في طبيعة دفاع بعض أهل التفسير من العامة عما إذا ما كان عبد الله بن سلام وأضرابه من علماء أهل الكتاب هم من عنتهم الآية بمن عنده علم الكتاب أم لا، فالذين قالوا أنها نزلت بمكة حاولوا أن يدفعوا كونها نزلت في هؤلاء، فلقد روى السيوطي عن سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، عن سعيد ابن جبير رضي الله عنه أن سئل عن قوله: "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43) أو عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: كيف، وهذه السورة مكية. وروى ابن جرير قال: حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج بن المنهال قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر قال: قلت لسعيد بن جبير: "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43)، أو عبد الله بن سلام قال: هذه السورة مكية، فكيف يكون عبد الله بن سلام. وعليه يحاول هذا الفريق الذي يقول بمكية السورة كي يخرج علماء أهل الكتاب الذين أسلموا في المدينة من أن يصدق عليهم مفهوم من عنده علم الكتاب. وعلى عكس هؤلاء نجد فريقا آخرا يقول بمكية السورة فيما خلا هذه الآية وآية أخرى نزلت بالمدينة، فلقد روى الجوزي، عن أبي صالح فيما رواه عن ابن عباس أن السورة مكية: إلا آيتين منها، قوله: "وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ" (الرعد 31) وقوله: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا" (الرعد 43) في مهمة واضحة حسب الظاهر للرضوخ للروايات التي تقول بنزول الآية عبد الله بن سلام وأضرابه كتميم الداريوالجارود وسلمان الفارسي. على أن أقوالا أخرى أجملت نزول السورة في المدينة كما ذكره الزركشي حيث قال: فأول ما نزلت فيها أي المدينة إلى أن قال: ثم محمد ثم الرعد. ثم استثني من ذلك قوله تعالى: "وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ" (الرعد 30) فقال: نزلت بالحديبية حين صالح النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: أكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن الرحيم، ولو نعلم أنك رسول الله لتابعناك، فأنزل الله تعالى: "وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ" (الرعد 30)إلى قوله تعالى: "مَتَابِ" (الرعد 30)، ثم استثنى من ذلك قوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا" (الرعد 31).
https://telegram.me/buratha