الدكتور فاضل حسن شريف
و يستمر الشيخ جلال الدين الصغير عن أي شاهد وأي شهادة؟ في كتابه من عنده علم الكتاب قائلا: ولو رجعنا للغايات الإلهية التي تقف وراء الشهادة والتي تشير إليها الآيات القرآنية الكريمة: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ" (الاعراف 172) لوجدنا أن طبيعة إلقاء الحجة الربانية كاملة على بني آدم لا تتوقف عند قوم دون آخرين، وإنما يجب سريانها على جميع الأقوام والأمم, وذلك لأن هذه الغاية رافقت البنية التكوينية لبني آدم، ولذا فإن من الطبيعي بمكان أن يتلازم بقاء الجنس البشري، مع بقاء هذه الحجة، وإن انتفاء أحدهما يستلزم انتفاء الثاني لاستحالة أن يقال أن الإرادة الربانية إرادة عباثة في مخلوقاتها. ولا أعتقد أن ثمة عسر في الوصول إلى تلازم آخر، وهو تلازم أمر الشهادة مع وجود المعاينة، فليس من معنى للشهادة بمعزل عن أن يكون الشاهد معاينا لما سيشهد به, ومع هذا الحال يتبدى للوهلة الأولى أن ثمة تناقض بين هذا المفهوم، وبين مفاد الآيات التي أشارت إلى شاهدية الرسول، وقد أشير إلى هذه الشاهدية بمعنى مطلق، الأمر الذي يعني أن شهادة الرسول لا تتوقف عند زمانه فحسب، بل هي تمتد إلى ما بعد زمانه الشريف بالمصاف مع إنذاره وبشارته صلى الله عليه وآله وسلم.
ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: ولا يمكن حل هذا التناقض إلا من خلال القول بأن الشهادة دور ومهمة، وهذه المهمة يمكن أن توكل إلى وكيل هو كالأصيل في إتمام هذا الدور، نتيجة لتحقق خصائص ومواصفات الشهادة هي شخصيته، وهذا ما يلتقي أيضا مع جملة من الآيات القرآنية التي أشارت إلى وجود شهادات سابقة لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما في الآية الكريمة: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" (النساء 41)، وكذا في قوله تعالى: "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ" (النحل 89) وهما يشيران وبوضوح إلى وجود شهادة لأنبياء ورسل وأوصياء الأمم, واعتبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشاهد على هؤلاء جميعا، وحيث أن الرسول لم يكن حاضرا في حياة تلك الأمم، لهذا لا يمكن فهم هذا الآيات إلا من خلال اعتبار شهادات الأنبياء عليهم السلام في طول شهادته صلى الله عليه وآله وسلم أي هي شهادات وكلاء تتجمع لدى الوكيل الأصيل، وهذه الأخيرة أي شهادته على الأمم السابقة - والتي تلتقي مع مفهوم كونه سيد الأنبياء والمرسلين، تستلزم أن يستمر دور الشهادة إلى الأمم اللاحقة لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو شاهد على جميع الأمم وهذا ما يلتقي مع مفهوم نظرية النص الإلهي التي تعتمدها الإمامية، والتي تعني استمرار دور شاهدية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من خلال شهادة الأئمة عليهم السلام على مجتمعاتهم، ومن دون ذلك فإن الحديث عن استمرارية دور الرسول في الشهادة يغدو فارغا من محتواه، وذلك لاستلزامها لمواصفات لا يمكن أن توجد عند أحد غيرهم كما سنوضح ذلك إن شاء الله تعالى.
ويقول الشيخ جلال الدين الصغير: ويخالف السيد محمد حسين فضل الله هذا الاتجاه، ويتبنى توسيع مبدأ الشهادة ليشمل: (الطليعة الواعية المؤمنة التقية المنضبطة التي تفهم الإسلام حق الفهم وتعيه حق الوعي وتمارسه حق الممارسة وتحمله بروح رسولية رائدة إنها النخبة الواعية الموجودة في كل زمان ومكان التي يقف الأئمة الطاهرون والعلماء الواعون والأولياء الطيبون والمجاهدون العاملون الذي يحملون هذه الشهادة إلى الله لأنهم يعيشون روح الرسالة ويعيشون من خلالها الوعي لكل حياة الناس كما هو الرسول في رسالته وفي وعيه لأمته). وهو قول يشبه إلى حد بعيد قوله في توسعة مفهوم ولاية الأمر الواردة في الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (النساء 59) ليخرجها من إطار الإمامة كما هو نص الروايات الموثوقة في هذا الشأن تحصر الشهادة بأهل البيت عليهم السلام كجهة عليا ونهائية للشهادة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وثانيا: إن ما أدخله من مصطلحات ما هي إلا عبارات فضفاضة ومبهمة، فأي فهم هو حق الفهم؟ وأي وهذه على أي حال تحتاج إلى سقف محدد حتى يمكن إلى حدود هذه المفاهيم وإنه قد غدا مصداقا لها، وبغيرها فإنها تعدو كلمات تتسع لكل شئ، ويمكن أن يخرج منها كل شئ. وثالثا: ولا نحتاج إلى تحديد مفهوم هذه المصطلحات فقط، وإنما نحتاج إلى تحديد هوية هذه المفاهيم، فالوعي المطلوب ضمن أي صنف علمي نحتاجه، فالفهم والوعي المراد هنا إن كان في خصوص الرسالة، فيحتاج إلى جهة تكون علامة بكل شؤونها، كي تتمكن من الشهادة عليها، وهذا ما لا يمكن لعالم أو ولي أو مجاهد الادعاء بتمكنهم منه، وذلك لأن هذه الجهة ينبغي أن يكون علمها بهذه الرسالة إما بمستوى الرسالة نفسها أو أعلى من مستواها، كي تتمكن من الشهادة، حيث لا يعقل أن نأتي بشاهد لم يحط بكل تفاصيل الرسالة، وإن كانت الممارسة المدعاة هنا تعني السلوك، فهي الأخرى لا يمكن أن تتقبل هذه العناوين، لأن الممارسة المحقة تستدعي العصمة، وهو مما لا ينطبق على هؤلاء بأي حال من الأحوال.
https://telegram.me/buratha