الدكتور فاضل حسن شريف
ويستمر الشيخ جلال الدين الصغير في قوله عن موضوع الشهادة: أما قولهم بأن الله لا يستشهد بغيره على صحة حكمه، فلعمري ها هو القرآن يقدم الكثير من الشواهد على خلاف ذلك كما ترى في قوله تعالى: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا * رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا" (النساء 163-166). ولذلك ترى الرازي يستبعد هذا المعنى فيقول معقبا على ذلك: لما جاز أن يقسم الله تعالى على صدق قوله بقوله: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" (التين 1). أما الاتجاه الثاني: فهو ما يعمد إليه العديد من المفسرين من العامة، وينضم إليهم التحريفيون المعاصرون، ويبلور هذا الاتجاه أفكاره من خلال ادعاء أن المقصود في هذه الآية هم علماء أهل الكتاب من الذين أسلموا على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كسلمان الفارسي وتميم الداري والجارود وابن يامين وعبد الله بن سلام وغيرهم، وأغلب حديث هؤلاء ينصب على ذكر عبد الله ابن سلام بعنوانه: "من عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43) ولدى هؤلاء يكون الكتاب الذي تحدثت عنه الآية هو كتاب أهل الكتاب من توراة وإنجيل وما إلى ذلك. فلقد روى المعنى الطبري، عن عبد الله بن سلام، وابن عباس، وقتادة، وأضاف الجوزي إلى ذلك الحسن، وعكرمة، وابن زيد، وابن السائب، ومقاتل، وشمر، وتابعهم السيوطي فيما رووه إلا أنه أضاف جندب.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: إن هؤلاء كانوا أصحاب كتب نعتقد بأنها كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محرفة، فإن كان هؤلاء من الذين كانوا يعتبرون كتبهم محرفة، فما لهم مالؤوا قومهم في البقاء على العمل بتلك الكتب؟ ومن يكتم شهادة من هذا القبيل هل يستحق أن يستدعي لشهادة على رسالية رسول من غير قومه؟ وإن كانوا ممن لا يعلم بأن كتبهم كانت محرفة، فعلى ماذا نسميهم علماء الكتاب؟ في حال أنهم إلى الجهل المركب أقرب منهم إلى العلم. يأتي هذا في الوقت الذي سبق للقرآن أن تحدث مع رسول الله مرارا بأن من هؤلاء من حرف الكتاب كما في قوله سبحانه وتعالى: "مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ" (النساء 46) وكذا قوله: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ" (المائدة 13)، وكذا قوله: "وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا" (المائدة 41)، ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده إليك كما في قوله جل من قائل:"وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (ال عمران 75) ومنهم من يصد عن سبيل الله ويأكل أموال الناس بالباطل كما في قوله تعالى: "فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (النساء 160-161)، وكذا في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" (التوبة 34). ومن الطبيعي عندئذ أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحال هذه من التقريع الشديد على أمور لها مساس مباشر مع عدالة الشهود أن يكون على أشد الحذر من الاحتمالات الواقعية لنكوصهم عن الشهادة، وبالنتيجة لا يجعل نفسه في معرض الخدش المباشر لمصداقيته الرسالية، وهو الأمر الذي يخشاه الرسول بما لا يخشى غيره.
ويستطرد الشيخ الصغير عن موضوع الشهادة قائلا: أن الشهادة المطلوبة ليست شهادة التصديق أو التكذيب على وقوع أمر أو لا، وإلا ما جاء بكلمة العلم المطلق بالكتاب، حيث يكفيه في هذا المجال كل صادق في القول، وإنما هي شهادة على تمامية الرسالة حتى لو كانت على نحو التفصيل الممل، وهو مقتضى إلقاء الحجة على الناس، ولهذا عبر القرآن الكريم عن شهادات غاية في التفصيل: "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النور 24) فلو لم يكن مقتضى تمام الحجية مستدعيا للشهادات التفصيلية، لما احتاج القرآن للحديث عن ذلك، إذ يكفي المجئ بشهادات الملائكة الكاتبين على تنجيز الفعل المشهود عليه. ولهذا نجد أن القرآن الكريم لا يستبعد إمكانية أن يشهد الشهادة بمثل هذه الأمور من له سنخ هوية المشهود له، طالما أن الشاهد يمتلك الدليل القاطع والبينات اليقينية على صحة شهادته، كما نرى ذلك في الآية القرآنية حيث يقول جل وعلا: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ" (هود 17) وهذه الآية لا تطرح إمكانية وجود الشاهد من سنخ هوية المشهود له، بل وتابع له فحسب، وإنما تطرح وجوده الاجتماعي أيضا، فمن الواضح أن الذي هو على بينة من ربه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يتبقى علينا أن نعرف من هو هذا الذي يتلوه، ومما لا ريب فيه أن هذه الآية تلتقي مع الفهم الذي أشرنا إليه من قبل بضرورة أن يكون للرسالة شاهد من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لما رأينا بأن قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" (الاحزاب 45) يشير إلى مهمة ودور لا إلى خصيصة ذاتية متعلقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحسب، وهذه المهمة طالما أننا فهمناها بأنها تستدعي الحضور الوجودي، بما وجدناه من آية عيسى عليه السلام: "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (المائدة 117) والتي تشير إلى استلزام حياة الشاهد، الأمر الذي يحتم وجود الشاهد بعد حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكمل دور الرسول ويؤدي إليه الشاهد كما أدت الأمم السالفة عبر أنبيائهم عليهم السلام الشهادة لرسول الله، وهذه الأمر يطرحه الفهم القرآني مرة بصورة الأمة الوسط كما في قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة 143)، وأخرى بصورة خصائص ومواصفات هذه الأمة الوسط بالصورة التي عرضت له الآيتين الكريمتين:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ" (الحج 77-78). فهذه الوسطية التي تقف بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الناس في مسألة الشهادة لن تكون إلا من خلال مواصفات دقيقة تقترب من مواصفات الشاهد وتتطابق معه، ولهذا كانت هذه الأمة الوسط مجتباة من قبل الله تعالى كما أشارت الآية الثانية، إذن فإنها ليست أمة بالمعنى الشعبي للموضوع، وإنما هي مجموعة مصطفاة من الأمة، عبر عنها بالأمة لأنها علم الأمة وشاخصها البارز، ولهذا عبر القرآن عن إبراهيم بأنه أمة في قوله تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (النحل 120). ونلاحظ هنا أن هذه الأمة المجتباة، قد كانت حاضرة في وجدان إبراهيم عليه السلام بحيث أنه سماها وعناها باسم المسلمين، وكونها سميت بذلك فلخصائص ومواصفات امتلكتها، هي التي جعلتها بالتالي تمثل الصورة العليا في الإسلام.
https://telegram.me/buratha