الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: ان حجم التناقض الذي تملك التيار المضاد للعصمة في عرضه المشوّه للفكرة تمثل في الشبهات التي أطلقها هذا التيار حول عصمة المعصومين عليهمالسلام كان أوّلها في ما يتعلّق بقولهم حول إمكانية خطأ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في تبليغ الآيات، والثاني في دعواهم حول إمكانية أن يؤثر الشيطان الرجيم لعنه الله على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في تفسيرهم المزعوم للآية القرآنية: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (الحج 52)، وثالثها في الشبهات التي طرحها التيار حول جبرية العصمة. ومن الشبهات قصة عبس وتولى، و قصة يوسف عليهالسلام وما أثاره هذا التيار في شأن علاقة النبي مع امرأة العزيز والتي يعتقد هذا التيار أن النبي يوسف عليهالسلام أراد أن ينال منها ما أرادت أن تنال منه. قال الله تعالى "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ" (الصافات 24-25). الواقع القرآني لن ينفع هؤلاء بشيء فالله سبحانه وصف نفسه بأن له الحجة البالغة على خلقه : "قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ" (الانعام 149) وطبيعة الحجّة الكاملة تقتضي أنه سيحتجّ بحجة كاملة تخرس ألسن المحتجّين في أي مسألة سيحتجّون بها ، وهذا ما لا يتناسب مع منطق هؤلاء الحشوية.
ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: فمن الواضح ان الشارع المقدّس وهو يلوّح بطبيعة رسالته القائمة على إتمام الحجة وكمالها "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً" (المائدة 3) ويتحدّث بجزم عن أن حجته لم تتم فحسب بل هي بالغة ووافية بصورة تامة كما هو الحال في قوله تعالى : "قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ" (الانعام 149) لا يمكنه أن يدع حجته وهي بهذه المواصفات لتختلط أوضاعها على المكلّفين بها وتعيش حالة التكليف ضبابية لا يمكنها أن تبعث الطمأنينة في نفس المكلّف، فهو مع عدم وجود الفاصل الموضوعي الصارم ما بين الشخصيتين سيعمد إلى واحدة من احتمالات ثلاثة: فهو إما أن يعمل بما ينقص عن الحجة الإلهية، وإما أن يزيد عليها، وإما ان تدركه الصدفة ليعمل دون زيادة أو نقصان وهو أندر من أن يحصل، فإن عمل بالزيادة فهو تكليف بما يزيد على حدود التكليف وهو ظلم، وإن أنقص فغير ملزم بجزاء النقيصة وإن تخلّف في الواقع عن الحجّة الإلهية، وكلا الحالتين تستوجب الخلل في طبيعة الحجة الإلهية التي ألزم الله نفسه بايضاحها وتبيانها بصورة كاملة. ولا أعتقد أن ثمة أجوبة موضوعية على هذه المسائل في جعبة من يدّعي الفصل، فإن قالوا بأن المقصود بالجانب الذاتي هو كل ما عدا الرسالة ، وفي ما يخص جانب الرسالة بما عرف بأحكام الحلال والحرام والتشريعات التي جاء بها القرآن الكريم! قلنا : وإن كان هذا الفاصل لا يحل أية مشكلة على هذا الصعيد ، حيث يبقي حدود السنة مبهمة المعالم ، ولكن ذلك لا يمنعنا من القول بأن القرآن الكريم لم يكن كله شرائع ، فما تحدّث به من آيات للأحكام ومتعلقاتها هو الجزء الأقل من القرآن ، وآيات العقائد إن كانت كونية إلا انها على الرغم من كونها خاصة بموضوعات الهداية ، غير إن لها جانباً آخر في كونه يقرر حقائق علمية ترتبط بعضها بالعلوم الطبيعية كالفلك كتعرضه لقانون التوسع الكوني وفق ما عبّرت عنه الآية الكريمة "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" (الذاريات 47) أو في حديثه عن الفيزياء كما في حديثة عن الحركة الكونية وقانون المغناطيسية الذي يتحكم بهذه الحركة كما تعبّر عن ذلك الآية الكريمة : "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (يس 38-40) أو في حديثه عن عالم الهوية الشخصية لكل إنسان كما يعرفها حالياً علم الإجرام الجنائي: "بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ" (القيامة 4) أو في عالم النبات "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ" (الحجر 22) وهكذا الكثير من الحالات التي تحدّث فيها القرآن، فإن قلنا بأن المعصوم عليهالسلام اطلع على أسرارها فقد خرجنا من حديث الرسالة إلى جوانب لا تتعلق بها، لوضوح أن ذلك من الموضوعات الخارجية.
وتطرق الشيخ جلال الدين الصغير عن العبادات الوجدانية قائلا: هذا من جانب ، ومن جانب آخر فنحن نعرف أن القرآن الكريم قد تحدّث عن عبادات يمكن أن نسميها بالوجدانية ، وهذه ليس بالضرورة أن تتخذ صورة ظاهرية وتتجسّد بعمل مادي محدد ، كما اننا لا نلمس لسقفها حدوداً عليا ، كما انه لا قعر لحدودها المتدنية ، فحديثه مثلاً عن الود في الله والبغض في الله ، كما في قوله تعالى: "لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (المجادلة 22) لا وجود ظاهري لأحكامه الشرعية، فأي مقدار هذا الود، وأي مقدار ذلك البغض؟ فهذه من الأمور التي ترتبط بالذات بصورة قد تختلف عن الأخرى، حيث يمكن أن نرى صورة لها في اللسان فقط، فيما يمكن أن نرى صورة أخرى لها تدخل حتى أعماق اللاوعي في الذات، مما يعني أن حالة التفاصل السامية هي التي تجعل من الذات والرسالة في صورتها المثلى متلاحمين بحيث تفنى الذات في كل ما له علاقة بهذا الود والبغض وفق ما تصوّره الآية القرآنية: "فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (المائدة 54). وتقدم لنا صور المطالبة الرسالية بالصبر تجاه البلايا والرزايا اللاحقة في عرض الحياة لتجمع ما بين الدوائر الثلاث الرسالة والذات والموضوع الخارجي، والمتمثلة بقوله تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (البقرة 155) وكذا قوله تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" (محمد 31) صورة اخرى عن طبيعة التلاحم بين المطلوب الرسالي والجهد الذاتي المنفصل عن أحكام التكليف والتشريع بعنوانه حلالاً وحراماً لا دخل له بدائره الكمال ، إذ من المعلوم أن صورة ظاهرية محددة في سقف واحد في الصبر لا وجود لها، فأي شيء هو المطلوب رسالياً حتى نفرّق بين الرسالة والذات؟ فإن قيل ثمة حدود ، فلا معنى معه للقول بوجود تفاضل بين صابر وآخر ، لأن الزائد في تخطّي الحد كالناقص، وإن قلنا ليس ثمة حدود، عندئذ لا مجال للقول بالانفصال بين الذات والرسالة خصوصاً وأن الحديث هنا عن ذات المعصوم عليهالسلام التي رأت من آيات اللطف الإلهي واطلعت على حقائق الوجود ما يجعلها تتولّه في حب الله، ومن طبيعة الواله أن يسعى لإرضاء محبوبه بكل ما يمكن له أن يرضيه.
https://telegram.me/buratha