الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: ولو تأملنا النص القرآني فإننا نجده قد حدد الجهل العقلي بمثابة العنصر الأساس الذي يتسبب في مضادة هذا العقل ودفع الإنسان إلى العمل في مسار معاكس للمسار العقلي، بحيث قد يؤدي به إلى أن يتحول إلى مسخ على شكل بشر، وهذا ما تبيّنه مجموعة من الآيات الكريمة كقوله تعالى: "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" (البقرة 171)، وكذا قوله تعالى: "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُون" (الانفال 22)، وكذا قوله: "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً" (الفرقان 44). وهذا الجهل ليس جهلاً بالمعنى المتداول في أيدي الناس، وإنما هو الجهل الذي يسيطر على القلوب والأسماع والأبصار ، وهذه القلوب والأسماع والأبصار ليست هي مجموعة الأجهزة والحواس المنظورة ، بل إن حديث القرآن عنها يشير بدلالة أكيدة إلى وجود ما يناظر هذه الأجهزة ، ولكن بمواصفات مختلفة، وإلا لما وصفهم بعدم الابصار والأسماع ، ولما تحدّث عن القلوب المقفلة "أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد 24)، ونفس الأمر تجده في حديثه عن البصر الحديد: "فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" (ق 22)، وهذا ما يجعلنا نؤكد أن ثمة أنظمة داخل النفس الإنسانية تختلف عن نظيرتها في ظاهرها، وهذه الأنظمة ترتبط بالعناصر الداخلية التي تشترك في تكوين المحتوى الداخلي للإنسان، وبالتالي فإن هذه الأنظمة هلي التي تعلب الدور الأساس في تكوين بواعث الارادة عند الإنسان وتحديد اتجاهاتها من حيث التحفيز والاحباط، ومن حيث الفعل والرتداده، إذ سنجد الحديث القرآني عن هذه الأنظمة يرتبط بحيوية خاصة تخلتف كلية عن أنظمة الحواس المادية، فهناك قلب مقفل أو قاس أو عكسه، وهناك أذن واعية، وثمة بصائر ترى، وهناك رؤية لأمور لا تنظر إليها العين المجردة، ولكن هذه القسوة أو عكسها وهذا الوعي وتلك الرؤية غير تلك التي نلمسها في حواسنا المادية، وبالجملة ترينا الآية الكريمة: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الاعراف 179) طبيعة عمل هذه الأنظمة الداخلية ، فهناك قلب وعين وأذان ليست هي ما نراه في حواسنا المادية ، وفي عقيدتنا فإن هذه الأنظمة هي التي تشكل الأرضية التي تعمل بها عناصر التقوى والفجور التي جبلت عليها الطبيعة الإنسانية وفق ما أشارت إليه الآيات الكريمة المتقدمة من سورة الشمس ، وعليه فإن دراسة الكيفية التي تتشكّل بها العصمة يجب أن ينطلق من دراسة هذه الأرضية لا من سواها ، ومن حسن الحظ أن القرآن حوى في متنه الشريف الكثير من الأضواء اللازمة للكشف عن طبيعة تشكلات هذه الأنظمة وطبيعة مساراتها.
وعن المتقين والفجار يقول الشيخ الصغير: وهنا نلحظ في البداية التمييز بين البنية المعنوية للمتقين وهم الذين غلّبوا عنصر التقوى، وبين بنية الفجار "أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" (ص 28) والسؤال التلقائي الذي يفرض نفسه هو : ما هي حقيقة هذا الجعل؟ وما هي ملازماته؟ وهل هو بوتيرة واحدة؟ أم له سلم موضوعي يتفاضل به متق على آخر، ويتسافل به فاجر عن ثان؟ ولعل الآية الكريمة: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" (الجاثية 21) تجيبنا على بعض ما نريده هنا، حيث جعلت اجتراح السيئات وما يعاكسه مجالاً للتفريق بين البنيتين، وهذا التفريق لا تفرد لعالم الآخرة به دون عالم الدنيا كما يتوهم الكثير من الناس، بل هو تفريق موضوعي في الحياة الدنيا قبل عالم الآخرة كما يتضح من ذيل الآية الشريف، ولكن كيف؟ ومحصل هذا التفريق نلحظه في مصاديق هذا الجعل ، فقد تحدث القرآن الكريم عن جعلين ، خصص الأول منهما للفجار وذلك وفق قوله تعالى: "كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ" (الانعام 125) وقوله تعالى: "وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" (يونس 100)، فيما خصص الثاني منهما للمتقين، كما نلمس في قوله سبحانه وتعالى: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً" (الطلاق 2) وكذا قوله تعالى: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً" (الطلاق 4)، وهذا الجعل بمثابة سنة تكوينية صارمة في هذه المسارات، وهو في صورتيه أشبه ما يكون ببوابة ثابتة على الطريق، فمن يجترح السيئات فإن الرجس الذي يعلو القلوب ليلحق بها العمى هو البوابة التي لا بد من ولوجها على طريق ارتكاب السيئات والآثام ، ومن يتق الله فإن التوفيق الإلهي في تيسير الأمور كل الأمور ، وإيتاءه سبل الخروج من المعضلات هو الآخر بوابة يدخلها المتقي تلقائياً في هذا الطريق.
ويستطرد الشيخ جلال الدين الصغير قائلا: ولو دققنا النظر في أحد الجانبين، وليكن جانب طريق التقوى، وتساءلنا عن مصاديق الجعل المخصص لسالكي طريقه؟ فسنجد في البداية أن الطريق باعتباره طريقاً طويلاً على مستوى السمو ، إذ لا حد له ليقف عنده المتقي ، فإن الجعل الإلهي لم يك محدوداً هو الآخر، لا في خصوصيته النوعية فلم يخصصه في نوع معين من التخصيصات، ولا في حدوده الكمية ، فهو إن تحدّث عن جعل المخرج للمتقي ومنحه الرزق ، فإنه لم يتحدث عن مخرج محدد، ولا عن رزق محدد، بل هو يمتد إلى كل المساحة التي يكون فيها سبب لحاجة المتقي إلى ما جعله الله، سواء كان تحديد هذه الحاجة مرتبطاً بالمتقي نفسه، أو كان بمثابة تفضل إلهي عليه، ولكن نظراً لخصيصة العدل الإلهي فإنه قد جعل لكل شيء قدراً، كما قال الله سبحانه: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً" (الطلاق 2-3) مما يعني أن السائرين على طريق التقوى ليسوا سواء في يجعل لهم، وإنما يرتبط هذا الجعل في نوعيته وحجمه بما يحقق هذا الإنسان من شرائط التقوى والتزاماتها، أو قل: فإن الفاعل الإلهي في جعله يتوقف مداه على مقدار ما يتحمله القابل الإنساني، فالله الذي هو عطاء مطلق وكرم مطلق ليس هو من يحدد حجم ما يأخذه الإنسان من هذا العطاء ومن هذا الكرم، بل إن الإنسان من خلال قابلياته هو من يحدد كم في مستطاعه أن ينال من هذا الكرم والعطاء، فالبحر لا يحدد للمغترف كم ينتهل منه، بل المنتهل من خلال ما يجلبه من وعاء للانتهال من ماء البحر هو من يحدد كمية ما يغترف من ماء البحر.
https://telegram.me/buratha