الدكتور فاضل حسن شريف
عن مفردات الجعل في القرآن الكريم يقول الشيخ جلال الدين الصغير: ويشير القرآن في متون الآيات إلى مفردات كثيرة من مفردات هذا الجعل ، وما يهمنا في مبحث العصمة الآية الكريمة: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ((الانعام 122) وكذا الآية المباركة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (الحديد 28)، ولا بد من التوقف عند هذا النور المجعول للمتقين للتعرف على حقيقته ، ولا بد من استيعاب السبب الذي جعله مرتبطاً بالمشي دون غيره ، ولربما تدلّنا الايتان المباركتان التاليتان على بعض من طبيعة وخصائص هذا النور "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الانفال 29) وقوله جلّ من قائل: "وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً" (الاسراء 80)، ففي الآية الأولى يؤتى المتقين فرقاناً ، وهذا الفرقان هو الذي يفرق أمامهم بين الحق وبين الباطل ، دون أن نجد أي مجال للتوقف في صورة هذا الفرقان عند حدود الذنوب والآثام ، بل إن الاطلاق الذي ميز كلمة الفرقان يجعلنا نتيقن أن المراد هو امتداده ليشمل حتى الأخطاء في التعامل مع الواقع وما يماثلها ، ومن توابع الآية نجد أن المجال لنفوذ مسارب الخطايا والأخطاءتتضيق مع تكفير الله تعالى لسيئاتهم، وغفرانه لهم، ولهذا فإن المتقي كلما ولج في دائرة التقوى بشكل أعمق كلما حظي بنور أكبر وأغلق وراءه البوابات التي يمكن للخطايا أن تنفذ منها، بينما تتخصص الآيةالثانية في إعانة الإنسان على الدخول من مداخل الحق، وبمعنى أن لا يدخل في مدخل غيره ولا تجده إلا عند الحق، وأن يخرج من مخارج الحق، وبمعنى أن لا يخرج إلا من مخرج الحق فلا تجده يخرج من أمر إلا بناء على مقتضيات الحق، وتكاد الآية تتخصص أكثرم اتتخصص فيه ضمن المجال الاجتماعي.
وعن عالم الملكوت يقول الشيخ جلال الدين الصغير: ومن يلحظ حقيقة التلاقي بين الأنبياء والأئمة والأولياء كل بحسبه مع عوالم الملكوت لإدرك هذه الحقيقة، فهي وإن عدت من المعجزات كما في أذهان الكثيرين، إلا انها تطرح من وجهة نظر فلسفية بحتة حقيقة الامكانية التي جبل عليها عالم الإنسان مع عوالم الملكوت، من حيث قابلية الإنسان للارتقاء إلى عالم الملكوت ، وعدم رفض هذا العالم بعنوانه عالماً من النور لانضمام الإنسان إليه لو ارتقت حقيقته من الظلمانية إلى النورانية ، وهو الأمر الذي وعد به الله سبحانه وتعالى كما تصوّره الآية الكريمة: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" (البقرة 157)، ولو لا حظنا التفاوت بين مفردات هذا التلاقي، لأدركنا مرجعية هذا التفاوت إلى الملكات والمؤهلات الذاتية التي يتمتع بها هذا الإنسان أو ذاك ، فلو نظرنا إلى التفاوت في لقاء مريم عليهاالسلامـ كمثال ـ مع عوالم الملكوت بحيث انها كانت تتغذى من السماء "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (ال عمران 37) ، وتلتقي بالروح ، مع لقاءات إبراهيم عليهالسلام الذي بلغ به الأمر أنه أري ملكوت السماء والأرض "وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ" (الانعام 75)، وبين لقاءات نبينا الأقدس في محضر الجلال والقدس والتي تصوّرها الآيات الكريمة بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم: "دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى" (النجم 8-18)، وهي ـ حسب ما يبدو لي ـ بأن البلاغة العربية جاءت بأرفع معنىّ لتصوير قرب الرسول الأكرم صلىلله عليه وآله سلم من الذات الإلهية يمكن للذهن البشري أن يتصوّره مع الحفاظ على خصوصيات التوحيد من أن تشوبها شبهات التحديد والتجسيم، للحظنا أن التفاوت يعود إلى الفارق بين المؤهلات التي تمتع بها كل واحد منهم صلوات الله عليهم، حتى إنّ مؤهلات السيدة مريم عليها السلام لم تكن كافية لأن توصلها إلى مقام النبي إبراهيم عليه السلام، وهكذا الأمر في مؤهلات إبراهيم عليهالسلام ومقام نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم.
ويستمر الشيخ جلال الدين الصغير متحدثا عن المتقين بالقول: وما من شك أن النور الإلهي المجعول للمتقين والذي يمشون به بين الناس، والمدخل الصدق الذي وعدهم، يشير إلى وضع قلوبهم، وقد عرفنا أن هذه القلوب كلما نزعت باتجاه التقوى كلما ذهب عنها الزيغ والرين، وكلما ابتعدت عن هذا الزيغ والرين كلما تحررت من العناصر الداخلية الأساسية في تشكّل الخطايا والآثام ، فما من مجال لدخول الشيطان ووساوسه إلى ذاتها، وما من مجال لتحكّم أهواء النفس في نزعاته ورغباته ، وما من مجال لوجود الجهل في شخصيته، كيف وقد قال الله سبحانه وتعالى إن الجهل من مختصات القلوب الزائغة، وترك العلم مفتوحاً أما القلوب التي تخلصت من نير الزيغ وفقاً لقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبَابِ" (ال عمران 7). والعلم الرباني الذي وصف بأنه يبيّن كل شيء "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ" (النحل 89) هو الآخر متفاوت في نيله بين الناس، وهذا التفاوت الذي تحدثنا عنه الآيات الكريمة: "قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ" (النمل 40)، وقوله تعالى: "فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً" (الكهف 65)، وقوله تعالى: "قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43)، وهذا التفاوت في منح العلم المعبّر عنه بالبعضية في الآيتين الأولى والثانية ، وبالشمولية في الآية الأخيرة ، لا يمكن ان يعبّر إلا عن اختلاف المواصفات والمؤهلات الذاتية بين أفرادها.
https://telegram.me/buratha