الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: لو تكاملت صورة التقوى ، لوجدنا تكامل اطلاع الإنسان على كل شيء ، واطلاعه على كلشيء سيتيح له التعرف على حقائق الأشياء ومنها الذنوب والخطايا ، وهذه المعرفة ليست كمعرفتنا بها ، بل بصورتها الواقعية والحقيقية ، ومثاله نتلمسه في الآية القرآنية التي تتحدث عن الغيبة "وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ" (الحجرات 12) فمعرفتنا نحن بالغيبة تتمثل في ما نقرأه ونلمسه من الآثار الاجتماعية والأخلاقية للغيبة، ولهذا تجد الكثير من المطلعين على الشؤون المحرمة للغيبة لا يتناهون عنها، ولكن من يطلع على الغيبة بالهيئة الحقيقية التي تصورها الآية الكريمة، أي إن الإنسان يلوك ما بين أسنانه لحم أخيه الميت، ودماؤه تتقاطر من بين الأنسان وتتناثر بين الجوف وما يخرج من الفم وتعلوا الشفتين لتتقاطر منها على الذقن ومنه إلى البدن. ومن الواضح إن النور الإلهي الذي يمشي به المؤمن والذي تتحدّث عنه الآيات المارة إنما هو حالة علمية بحقائق الأشياء، فلا يتوقف عند بعد أو أكثر من أبعادها وإنما يشمل كل ما تشتمل عليه هذه الأشياء غاية ما في الأمر أن يعمل الإنسان على إزالة الحجب التي تعيق امتداد هذا النور، مثله مثل المصباح حين تضيء به غرفة ما، فسيعم النور دفعة واحدة كل اجزاء الغرفة حتى لو لم تتعمد إيصال النور إليه ، وما سيبقى مظلماً هو ما بقي خلف الحجب التي حالت دون وصول هذا النور ، وهذا العلم من سنخ العلم الذي تتحدّث عنه الآيات الكريمة: "كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ" (التكاثر 5-7)، فمن المعلوم أن رؤية الجحيم المطروحة هنا في الآية الأولى ليست هي رؤية عالم الآخرة ، بل هي رؤية عالم الدنيا ، ولا تحصل هذه الرؤية إلا بعلم اليقين، وهو صورة متقدمة من صور النور الإلهي، ووفق هذه الآية فإن الدنيا تحفّ بها عوالم أخرى وما يحجب العلم عن تلك العوالم ويجعل الإنسان قاصراً عن رؤيتها هو عدم حصول هذا العلم أما مع حصوله فإن الصورة الكلية لما يحفّ بهذه الدنيا سوف تكون مرئية لمن له علم اليقين ، وكلما كانت كيفية هذا العلم أكثر تقدماً كلما امكن هذا الإنسان من رؤية حقائق ما يجري ويحفّ حوله.
واستطرد الشيخ الصغير قائلا: طبيعة الحال فإن إمكان الخطأ في هذه الرؤية أو الزلل أو نسيانها تغدو منعدمة ، لأن الخطأ والنسيان والزلل هي صور من عالم الظلمات وفق تعبير علماء الأخلاق ، ومهمة هذا النور هو الخروج بالإنسان من الظلمات "الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" (ابراهيم 1) ولهذا فمن أخرج من هذه الظلمات واعتنق هذا النور فما من مجال لتعلّق عالم الظلمات ومفرداته به ، اللهمّ إلاّ أن ينسلخ من عوالم النور ، فهذا هو من سيحجب الرؤية عن بصيرته ، وهو من سيورد العمى عليها. ولو دققنا في شأن العصمة وفق هذه المعطيات ، فإن أي مجال للوقوع في الخطأ والإثم عند المعصوم المزوّد بهذا النور يصبح مستحيلاً ، فلقد زوّد بعلم يجعله محيطاً بحقائق الامور ، وعملية التزويد هذه تمت بناء على مؤهلاته الذاتية ومن جملتها تنقيته لذاته مما يشوب علقة الاخلاص لله سبحانه وتعالى ، وهذه التنقية إنما تمت بسبب تمتعه بإرادة صلبة أهّلته لمقام العصمة ، بل أهلته لأن ينال مقاماً أعلى بكثير من مقام العصمة ، ألا وهو مقام الإمامة ، وفق ما بيّنته الآية الكريمة : "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" (السجدة 24) مما تجعله يتحرى الموقف الصحيح المنسجم مع متطلبات العبودية لله. ولو أردنا أن نتلمس الصورة التكاملية لذلك كله في الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي يقدمه القرآن بعنوانه النموذج الأكمل للمتقين ، فلقد رأى من آياته ربه الكبرى ، حين دنا فتدلى ، وهناك أحاط بعلوم يقينية لم يسبقه إليها أحد من الخلق ، وحظي بامتيازات لم يخظ بها أحد غيره ، حتى جعل مؤتمناً على النور الإلهي كما نلحظ في الآية الكريمة : "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الاعراف 157) وما كان ذلك إلا بسبب ملكاته الذاتية ، فما السبب الذي يجعله يتخلى عن هذا الموقع العظيم ليسير في المسارات المناقضة للعصمة؟
وعن اقتراف الذنوب يقول الشيخ جلال الدين الصغير: إن القرآن الكريم يدلنا على خمسة أسباب تجعل الإنسان مقارفاً للذنوب كما سيأتي تفصيلها لاحقاً ، ولكن صورتها الحقيقية مجموعة في الجهل بحقائق ما يقدم عليه ، وهذا ممنوع عليه لأنه قد علم حقائق كل الأمور ، تبعاً لقوله تعالى : "وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ وَلكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (الشورى 52)، وهذا هو مفاد العصمة المطلقة كما يرشح من ذيل الآية الكريمة : "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (الشورى 52).
ويقول الشيخ الصغير عن تشكيل العصمة: بناء على ذلك نجد أن الآلية التي تتشكل بها العصمة ، إنما تعتمد على عاملين أساسيين هما: الأول : ملاكات ومؤهلات ذاتية عالية المضامين ، وهذه الملاكات تتقوّم أساساً بناء على اختيارية الإنسان في اكتسابها وسعيه إليها ، مما يعني أن العصمة من حيث الأساس شأن اكتسابي يمكن السعي إليه ارادياً. الثاني : لطف إلهي يرقى بهذا الإنسان ليجزيه أجر ما أحسن عملاً ، وهذا الأجر ليس هو الأجر الأخروي ، بل هو الأجر الدنيوي ، فلقد وعد الله سبحانه الذين آمنوا بمزية في الحياة الدنيا كما قال تعالى : "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" (الجاثية 21)، وهذه المزية الممنوحة في المحيا وفي الممات، هي في واقع الحال تفرق بين من يجترح السيئات، وبين من لا يجترحها. ومن يلحظ هذا اللطف في واقع الأمر يجد انه يعلب دوراً آخر، هو دور التحفيز للمزيد من العطايا الربانية ، فمن يحظ بتلك الامتيازات لا يلتفت إلى ما وراءه، بل سيكون جلّ اهتمامه متعلق بنيل الحظوة عند الله سبحانه وتعالى.
https://telegram.me/buratha