الدكتور فاضل حسن شريف
عن عصمة العلم والتشريع يقول الشيخ جلال الدين الصغير: تحدّث القرآن الكريم عن عصمة المعصوم عليهالسلام العلمية كما أشرنا إلى ذلك في آية الراسخين في العلم، حيث ميّزهم بميزتين ، أولهما : انهم يفترقون عن الذين في قلوبهم زيغ نتيجة مؤهلاتهم الذاتية، وهذا التمييز ليس تمييزاً عابثاً، بل هو يشير بالتأكيد إلى ان قلوب هؤلاء الراسخين مصفاة من الزيغ، مما يجعل قلوبهم قابلة لتلقي الفيض الإلهي الخاص بعلم تأويل الكتاب، وهذه هي الميزة الثانية، ولا ريب أن العلم الناتج عن هذا الفيض هو علم معصوم، ويتعلّق بهذه العصمة كلّ ما يترتّب عليها من شؤون التبليغ. وترينا الآية الكريمة: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (الحشر 7) تقريب آخر لهذا الحد من حدود العصمة، إذ لا يمكن أن يعلّق الحساب الإلهي ثواباً أو عقاباً على الأخذ بما أتى به الرسول، أو التناهي عمّا نهى عنه إلا لكون ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما ينهى عنه معصوماً.
وعن عصمة الولاية يقول الشيخ الصغير: في قوله تعالى: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ" (الاحزاب 6) وهذه الولاية الشاملة التي تمتد إلى كل خصوصيات الإنسان بما فيها حياته الذاتية فضلاً عن مسائل الحسبة والحكم، لابد أن تكون تطبيقاتها معصومة، لأن افتراض عدم عصمتها سيؤدي حتماً إلى إلحاق الظلم والأذى والضرر بالمكلّفين باتباع هذه الولاية ، مما يقدح بعدالة الآمر لهم باتباع هذه الولاية، وهذا باطل جزماً. كما إن افتراض عدم عصمة هذه الولاية سيجعل هؤلاء المكلّفين بين نقيضين، بين أن يتبعوا ولاية النبي وينجّزون ما يترتب عليهم من شؤونها، وبين أن يخالفوه عملاً بمبدأ عدم فعل الخطأ ، وهذا ما يبطل أصل الولاية لتعارض قدرة المكلّف في اتباع الأمرين معاً. وعدم عصمة الولاية هذه سيؤدي إلى انحسار الالتزام بها، لأنها قائمة على إرادة جزافية ، مما يغري المكلّف بعدم الطاعة، وهذا خلاف حكمة البارىء جلّ وعلا. وبملاحظة أن هذه الولاية مستمدّة من الله سبحانه وتعالى كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" (المائدة 55-56) وهذه الولاية لا يمكن لله أن يولّيها من لا قابلية ذاتية له في نفسه تمكّنه من الاعتصام عن الظلم، وإلا كان الله شريك من يولّيه في ظلمه وخطئه في حال وقوعه في ذلك ، تعالى الله العدل عن ذلك علوّاً كبيراً. كما ان الله تعالى لا يمكن أن يدخل في حزبه من يتولّى قوماً وهم من أهل الأخطاء والمعاصي ، فهو مخالف لحكمته سبحانه ، فكيف ينهى عن شيء، ثم يثيب العاصي له في نهيه هذا وقد نهى عن كل ذنب وخطأ بأن يجعل له الولاية على عباده؟ وقد يكون فيهم من لم يعصه في نهيه هذا ، مما يوقعنا في خلاف آخر مع عدالته جلّت قدرته. وحينما تكون الولاية الالهية الممنوحة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم تشمل الولايتين التشريعية والتكوينية، فما من شك أن عصمته (صلوات الله عليه وآله) تشمل كل ما يتعلق بساحة هاتين الولايتين ، لأنه لا يعقل أن يمنح الله ولايته لمن يخلّ بمتطلباتها ن لأنه سيكون بمثابة ثوابٍ على خطأ. وتتبع هذه الآية آيات أخرى لا تقل دلالتها على ما نريد قوله، إذ يظهر قوله تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (ال عمران 132)، وكذا قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" (النساء 59)، وعدّة آيات أخر مظهراً آخراً من مظاهر عصمة الولاية، وذلك لأنه هنا ألزم بالطاعة، وجعلها في طول طاعة الله سبحانه وتعالى، ومن أمر الله بطاعته لا بد وأن يكون معصوماً، لاستحالة أن يأمر الله بطاعة من يمكن أن يخطىء، وسيأتيك بيانه بعد حين.
ويقول الشيخ جلال الدين الصغير عن عصمة القضاء: في قوله جلّ تعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (النساء 65) نجد نفس العصمة ولكنها هذه المرة في ساحة القضاء، فهذا الجزم في وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قضائه والذي لا يتوقف عند الصورة الظاهرية للأحكام بل تجده يمتد حتى أعماق شغاف القلوب، لا يمكن إلا أن يكون صادراً إلا عن اطمئنان بعصمته، لأن امتداد الأمر إلى أن لا يجدوا في أنفسهم أي حرج مما يقضي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويسلموا له بهذه الطريقة التي نرى توغّلها إلى القناعات الذاتية غير المهموسة ، لا بد وأن يعرب عن عصمة القاضي لأن أي خلل في قضائه ، وإن أجبر المتقاضين على الاستماع إليه والرضوخ إلى حكمه ، إلا انه لا يمكنه أن يولد هذه القناعة الذاتية الجازمة المطالب بها من يؤمن به.
وبين الشيخ الصغير عن عصمة الوجدان: في قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الانبياء 107) يشير الله سبحانه وتعالى في جملة ما يشير إليه إلى الطبيعة الوجدانية التي تتملك الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهي تدلّنا مرة أخرى على حد جديد من حدود العصمة، فقلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يك معصوماً بالصورة التي تكون عواطفه في ما يحزنه أو يغضبه أو يؤذيه، أو في ما يفرحه ويسعده وما ناظر ذلك لما كان هذا القلب بهذه الطبيعة من الرحمة التي لا تتوقف عند حدود شيء، ولما رأينا تعليق الله سبحانه غضبه على من يؤذي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبته على من يحبّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما تشير إليه مفاد الآيات التالية: "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (التوبة 6)، وقوله: "وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ" (الاحزاب 53)، وكذا قوله: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً" (الاحزاب 57). ولا يمكن توهم أن الآية الشريفة: "إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القصص 46) تنافي هذه العصمة، فالحديث هنا عن تمنيات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهداية الآخرين، وهي الهداية المنطلقة من طبيعة رحمته بالعالمين بحيث يتمنى لجميع الخلق أن ينهلوا من مناهل الخير ، ولا يتمنى لهم الضلال لمعرفته بنتائج كلا الأمرين.
https://telegram.me/buratha