الدكتور فاضل حسن شريف
عن امتداد العصمة يقول الشيخ جلال الدين الصغير: إن خلو ساحة الخلق من النموذج الأسوة يمثل في أحد جوانبه التكليف بما لا يطاق، فالعملية التربوبية ليست قراراً يصدر، وعلى الجميع تنفيذه، بل هي عملية هداية تحتاج إلى من يحمل النور الإلهي ليدلّ الخلق عليه. وهذه الحقيقة هي التي استدعت أن يتصاحب الكتاب المُرسَل والنبي الحامل له دائماً، وهي التي منعت من أن تنزل الملائكة لتبلّغ الخلق بالإرادة التشريعية للرب المعبود. ومن الطبيعي بمكان أن نتساءل عن كيفية تحقيق متطلبات هذا الهدف الرباني ولوازمه؟ ومما يبدو فإن ذلك سيضعنا أمام أحد الاحتمالات التالية: 1 ـ فإما أن يبعث الله بكتاب يوضح فيه كل ما دقّ ، ويبيّن فيه كل ما يلزمهم في كل الشؤون المتعلقة بهذا الهدف ، ويكون عرضه هذا كله على مستوى المحكمات والبعد عن التكلّم بالمتشابهات التي يمكن أن تضع الخلق في شك من حقيقة المراد الإلهي. وهذا الاحتمال ساقط بداهة لأن الكتب الربانية وإن عُنيَت بتوفير كل مستلزمات هذا الهدف ، ولكنها عرضت لهذه المستلزمات على طريقة المحكم والمتشابه، بحيث يمكن أن يؤدي هذا العرض بالذين في قلوبهم مرض أو في عقولهم جهل إلى الضلال والفساد والبعد عن حقيقة تأويل هذا الكتاب. 2 ـ وإنا ان يديم الله حياة الرسول إلى أزمان بعيدة جداً بحيث يوضّح فيها كل مستلزمات الحجة الإلهية ، ويحرص على تحقيق الهدف الرباني، ولازم هذا الاحتمال أن يمدّ بعمر الخلق أيضاً. وهذا الاحتمال ساقط أيضاً، وليس أدلّ عليه من تجربة نوح عليهالسلام الذي استمر به العمر قروناً متمادية، ولكن كانت النتيجة هي عذاب الطوفان كما يعبّر عن ذلك القرآن الكريم "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ" (العنكبوت 14). 3 ـ وإما أن يرسل الرسول ليؤدّي دور المبلّغ الإلهي ، ثم يتمّ دوره بمن يكون في سلوكه وعلمه ما يمثل حاله امتداد طبيعية لهذا الرسول، ويكون دوره مماثلاً لدور الأنبياء المتعاقبين واحداً بعد آخر. وإذا ما كان هذا الاحتمال هو المتعيّن وهو ما يدلّ عليه اللازم القرآني الذي سنشير إليه ، ولا يمنع منه الاستقراء التاريخي، فإن الحديث يعود بنا لى تفحّص مؤهلاته من حيث الصدق والكذب ومن حيث الانسجام الكامل مع الرسالة ، فإن قلنا بإمكانية كذبه وعدم انسجامه مع الرسالة عدنا إلى ما كنّا قد انتهينا منه من القول بضرورة تلازم التبليغ الرسالي مع صدق المبلّغ وانسجامه مع رسالته ، فإن احتاج الرسول إلى العصمة للضرورة كان هذا الآخر محتاج هو أيضاً إليها لنفس الضرورة. وهذا الحال هو ما يدلّنا عليه نفس اللازم القرآني ، وذلك لأنه دلّ في كل مرة تحدّث فيه عن دور النبي الرسالي على وجود تابع له نفس مواصفاته ، تمتد به مسيرة الرسالة ، فحينما طرح القرآن أمر إكمال الدين وإتمام النعمة ويأس الكفر من إلحاق الأذى والضرّ بالدين في قوله تعالى: "الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً" (المائدة 3) لا بد لنا في البداية أن نتساءل عن طبيعة الحدث الذي حدث بالشكل الذي عبّر فيه الله سبحانه وتعالى بهذه القاطعية عن تمام الدين وإكمال النعمة ويأس الكافرين ، وهو حدث ليس من السهل الذي يمكن لنا أن نستهين به ، فنمرّ عليه مرور الكرام، أو يمكن أن يستهين به الله جلّ وعلا ، فلا يعرضه في قرآنه الكريم. كيف لا؟ وقد علّق كل مهمة الهداية الربّانية به ، ولهذا فلا بد لنا أن نبحث عن معادل له نفس القيمة في هذه المهمة. وفي الواقع فإن المرء لا يجد ما يمكن أن يحلّ به هذا اللغز بقدر هذه الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (المائدة 67) ففي هذه الآية تجد أن الله قد رهن كل عملية التبليغ الرسالية بحدث معيّن، بمعنى أن حدوثه سيؤدي إلى إتمام أغراض هذه العملية، وما من ريب أن إتمامها هو إتمام للدين وإكما للنعمة، وهنا لا نريد أن ندخل في طبيعة الحدث وماهيته.
ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: ولو لاحظنا آيات العصمة لوجدناها مع تأكيدها على وجود هذا الامتداد الرسالي، فإنها تؤكد في نفس الوقت عصمته، وتتحدّث عنه بنفس الطريقة التي تحدثت فيها عن عصمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أي إنها أجملت وعمّمت في مكان، وفصّلت وخصّصت في آخر، ففي آية التطهير "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" (الاحزاب 33) نراها تعرض للأمرين معاً، حيث تؤكد عدم توقف وجود العصمة على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل نراها تمدّ بهذا الوجود إلى خارج هذه الدائرة، أياً كان المراد بأهل البيت عليهم السلام، فإنها تتحدث عن هذا الامتداد الربّاني، فإرادة الله بعصمة أهل البيت عليهم السلام حينما تعلّقت بجهة غير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بد من سبب لذلك، فهي ليست إرادة عابثة، وكونها هادفة فإن هدفيتها لن تخرج حتماً عن نفس الهدف الرباني المتعلّق بإرسال الرسل والأنبياء عليهمالسلام. وتظهر لنا الآية الكريمة: "إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" (الرعد 7) تجلّياً واضحاً لحقيقتي الامتداد والعصمة، فوجود الهادي لكل قوم تظهر أحقية هذه الأقوام بوجود هذا الهادي، لأن عدم وجوده يمكن أي كون حجة في ما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، فلقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسوة لمن رافقه وصاحبه، وبمقدار ما نقل عن سلوكه وحديثه فهو أسوة لمن بعده، ولكن ما خفي من حياته صلوات الله عليه وآله كان هو الأكثر، ولهذا فمن حق الأمم اللاحقة أن تسأل عن سبب محروميتها واستثنائها من القاعدة التي التزمت بها عملية الهداية الربانية تجاه الأقوام السابقة لعهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث كانت ترتع ما بين نبي وإمام؟ أقول: إذ تظهر هذه الآية الامتداد الرسالي فإنها تظهر عصمة هذا الهادي أيضاً ، فأيّ هداية يمكن تصوّرها والهادي ليس من أهل العصمة؟ وكيف يمكن للأمة أن تتبعه وهو يعيش بين ظهرانيها بخطئه وذنوبه؟ وإذا كان ذلك محال، فمما لا شك فيه أنه معصوم.
وعن الآية المباركة "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (النحل 43) يقول الشيخ جلال الدين الصغير: نفس الصورة التي رأيناها في الآيتين السابقتين، فهي تحدد جهة غير جهة الرسول صلىالله عليه وآله وسلم كامتداد رسالي له نجد سماته بارزة في طبيعة نعتهم بأهل الذكر، وحينما يطلق أمر السؤال يظهر لنا أن المسؤولين لا يمكن أن يخطئوا في أجوبته، وإلاّ لما أمر بالرجوع إليهم، وبالتالي فقد قدّمهم بعنوانهم مرجعية لطالبي العلم الإلهي في حال غياب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه يظهر السذاجة الفكرية لدى الذين يحاولون أن يظهروا أن أهل الذكر هم علماء أهل الكتاب ، فالقرآن الذي نعت أهل الكتاب لا سيما علماءهم بأشد النعوت المنافية للهدى، ووصفهم بأبعد الصفات عن الذكر، واتهمهم بتحريف الكتاب والضحك من الناس كما يظهر في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (التوبة 34) كيف يمكن أن يجعلهم مرجعية للعلم المرتبط بعملية الهداية الربانية؟ ساء ما يحكمون. كما ترينا الآيات الكريمة في سورة الإنسان: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً" (الانسان 8-22) حتمية أن تكون الجهة الممدوحة هنا بكل هذه الأوصاف الرائعة الجمال، والمبالغة في الثناء من جهة معصومة، فإطعام الطعام وبقية الأعمال المشار أليها يمكن أن يبادر إليها أي إنسان مؤمن ويبقى مصيره دائر بين الخوف والرجاء خشية تقلّب القلوب، ولكن هذا المديح البالغ، والثناء السامق، والوعد القاطع لهم بالجنة، وهو وعد سابق للحساب، مما يشير حتماً إلى أن من مدح بالآيات لا يرتكب عملاً يتعارض مع دين الله في صورته الكمالية، فاستحق هذا المدح ولما يزل حيّاً في الدنيا.
https://telegram.me/buratha