الدكتور فاضل حسن شريف
وفي الفصل الثالث من كتابة عصمة المعصوم عن شبهات حول العصمة يستمر الشيخ جلال الدين الصغير قائلا حول إشكالية هفوات الأنبياء عليهم السلام: وقوله عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (الحج 52). وكذا قوله عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ" (الاحزاب 37). وكذا قوله تعالى أيضاً: "عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ" (التوبة 43). وكذا قوله تعالى: "لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" (التوبة 117). وكذا قوله تعالى: "عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى" (عبس 1-3). وكذا قوله تعالى: "وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً" (الاسراء 73). إلى غير ذلك من الآيات التي قد يوحي ظاهرها إلى ما يناقض عصمتهم صلوات الله على نبينا وآله وعليهم أجمعين وقصصها تجدها متناثرة في كتب التفاسير. طبيعة خيال الإنسان وأوهامه عن نفسه ومحاولته قياس الآخرين على شخصيته، وما يستهوله من عدم إمكانية خطأ إنسان آخر وهو الذي يجد في نفسه الخطأ وهو يستقر على أعتاب سلوكه، ولربما أوهمه فهمه للآية الكريمة: "إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ" (يوسف 53) بذلك، فهذه الطبيعة غير المعصومة، كيف يمكنها أن تفهم شخصية لا تناظرها في البناء الذاتي ، ولهذا وقع الكثير من المفسرين وسواهم بهذا المطب مما جر على فكر العصمة الشيء الكثير من الويلات. أن أي نص قرآني ينبغي النظر إليه بعنوانه لبنة من بقية لبنات ، يستعان بكل واحدة منها لفهم البقية ، فلو أخذنا آيات التشبيه مثلاً لوجدنا أن الظاهر القرآني الذي يتحدث عن يد الله ووجهه وما إلى ذلك إن أخذت مجتزأة عن بقية الآيات لأدت إلى فكر التجسيم ، ولكن حينما ننظر إلى هذا الظاهر بعنوانه وحدة من بقية وحدات فإننا سنواجه عندئذ ما يميط اللثام عن هذا الظاهر كما في قوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" (يوسف 53) ليحوّل فهم هذا الظاهر إلى الكناية فيعطينا عقيدة بعيدة عن التجسيم وهكذا هو الأمر في مبحث العصمة.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير عن خصائص مقام النبوة: تقدّم في المباحث السابقة أن الله سبحانه وتعالى حينما انتخب رسله واصطفى أنبياءه عليهمالسلام فإنه لم ينتخبهم ويصطفيهم بناء على حالة اعتباطية، لأن ذلك خلاف العدل والحكمة الإلهيتين، وانه حينما انتخبهم فبسبب ما كانت مؤهلاتهم الذاتية تشتمل عليه من خصائص ومقومات لم تتوفر في غيرهم ، وما كانت هذه المؤهلات لتعبر عن شيء بقدر تعبيرها عن انصياع ارادة هؤلاء الكامل لمقتضيات العهد الذي قطعوه مع الله سبحانه وتعالى وذلك كما نلحظه في الآية الكريمة: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً" (الاحزاب 7)، وهذا الميثاق الغليظ المعبّر عنه في هذه الآية الكريمة يشير إلى ظاهرتين في نفس الوقت، فهو مرة يشير إلى أن هذا الميثاق الموسوم بالغلظة ما كان ليتقوّم إلا على أساس الطاعة المطلقة لله سبحانه وتعالى في ما أمرهم به ونهاهم عنه، وثانية يشير إلى صدقهم في قبوله، لأن عدم صدق قبولهم سيؤدي إلى انتفاء النبوة عنهم حتماً، وهو أمر لم يحصل أبداً في تاريخ الأنبياء عليهم السلام. ذلك على الطريقة المعبّر عنها في قصة بلعم بن باعوراء ولم يك نبياً خلافاً لما ورد في كتب العامة، حيث عبرت الآية الكريمة بكلمة الانسلاخ عن انتفاء اللطف الإلهي الذي حظي به قبل أن يدخل الحسد والغرور، وهو الأمر الذي جعل قلبه مرتعاً للشيطان، فغدا بذلك من الغاوين "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ" (الاعراف 175). وهذا القبول ليس قبولاً قولياً يمكن له أن يختلف في دائرة العمل على طريقة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ" (الصف 2-3) كيف؟ وقد جعلهم الله هم الحجج البالغة على خلقهوعباده وعبّر عنهم موضع ثقة علمه ، وجعلهم مصداقاً لقوله تعالى: "اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ" (الانعام 124)، وهذه الثقة هي التي جعلتهم يتخلصون من كل صور اللهجة الصارمة التي تتداعى مصداقيتها الفعلية من خلال الآيات الكريمة: "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" (الحاقة 44-47)، مما يعني أني ارادتهم عليهم السلام لم تكن بالارادة العاجزة عن مواجهة بعض التحديات التي قد تحول عن تواصلهم مع الله سبحانه وتعالى دون أدنى مجال للمعصية.
ويستطرد الشيخ الصغير: ولو لحظنا ذلك من خلال الأسباب الموضوعية المؤدية إلى الوقوع في المعاصي والآثام لوجدنا أن القرآن في الوقت الذي وصف هذه الأسباب بعناصر الضعف، قام بوصف أنبياء الله ورسله والمصطفين من عباده بكل ما يليق بهم من عناصر القوة، ولا يمكن لضعيف أن يتغلب على قوي. فالجهل الذي يعدّه القرآن السبب الرئيس للوقوع في المعاصي والآثام نتيجة غياب هيئتها الحقيقية عنه، والعامل الفعال في احباط بصيرة الإنسان عن رؤية حقائق الأمور، ينتفي مع الأنبياء، فمن المعلوم أن النبوة هي الرائدة في محاربة الجهل. والشيطان الذي يعد أحد العوامل الرئيسية الأخرى في ارتكاب الآثام، وفي ايجاد الغشاوة التي تؤثر على رؤية الحقيقة، وصف بأن كيده كان ضعيفاً وفقاً لقوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً" (النساء 76)، والخالق الذي أعطاه القابلية للتأثير على من يسلم قياده إليه، سلبه قدرة التأثير على خاصة الأولياء كما قال تعالى: "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ" (الحجر 42)، وهذا السلب ليس سلباً تكوينياً ، بل لأن العباد المنظورين في الآية أقوى من أن توثر فيهم وساوس الشيطان ونزغاته وأهواء النفس التي وصفت بأن لها قدرة كبيرة على أن تبدل إله الإنسان بألوهيتها وفقاً لقوله تعالى: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ" (الجاثية 23)، فعلاوة على إن وصف متبع الهوى بما لا يليق بمؤمن فضلاً عن نبي، إلا اننا يمكننا أن نعرف أن الأنبياء والأولياء هم رواد التوحيد، وحاشى الله أن يرسل لعباده من لا يملك هواه ، بل من لا يوحّده حق التوحيد على ان هذا الوصف ناف للنبوة عنهم بشكل تام ، والقصص القرآني مليء بالكثير من مناقبيهم عليهم السلام التي تظهر صدقهم بالتعامل مع الله سبحانه وتعالى وتفاهيم في هذا المجال.
https://telegram.me/buratha