الدكتور فاضل حسن شريف
وفي الفصل الثالث من كتابه عصمة المعصوم عن شبهات حول العصمة يقول الشيخ جلال الدين الصغير حول خصائص النص القراني: هناك صنف من الآيات تحدّث عن قضية معينة في مكان وأوضح طبيعتها في مكان آخر ، أو تحدّث عن خصوص في مكان وعن عموم في آخر ، أو على العكس من ذلك، فأخذها هؤلاء مفككة معزولة عن غيرها، أو خفيت عليهم التعميمات أو التخصيصات ، فأودى بهم إلى تصويرها كآية تقدح بهذه العصمة ، في الوقت الذي نرى فيه تداعي هذه الشبهات بمجرد وصل الآيات ببعضها ، فقوله سبحانه وتعالى عن نبيه موسى عليهالسلام: "فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى" (طه 67-69) لو أخذناه بلحاظ الآية الكريمة: "قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ" (الشعراء 12) علمنا طبيعة خوف موسى عليهالسلام ، خاصة وأنه لم يبد أي أثر من الخوف المرتبط بذاته أو عليها حين أرسل إلى فرعون وهامان رغم كل ما أعربت عنه الآيات من طغيانهما وبطشهما وتوعدهما موسى بالجزاء الشديد نتيجة لما أثار عليهم من أجواء فكرية وعقيدية لها أعمق الآثار على البينة السياسة التي يؤسسون عليها سلطنتهم ، وهو الأمر الذي ينسجم مع تلك الضابطة التي أشرنا إليها ، ويمكننا تلمس نفس الأمر في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" (المائدة 67)، فقد اجتهد أهل التفسير على تصوير أن خشيته صلى الله عليه وآله وسلم كانت من القتل ومن قريش، في الوقت الذي تشير وقائع الآية إلى كون الآية قد نزلت في أواخر أيامه صلى الله عليه وآله وسلم، بعد ان واجه كل طغيان قريش وحطم جبروتها، وبعد أن أبرزت وقائع الأحداث أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان ملاذ الأبطال لقول أمير المؤمنين عليه السلام فيه: كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله! وبعد أن تحدّث القرآن كثيراً عن شخصيته بأبي وأمي العازفة عن الدنيا ، وشدة رغبته في ما أعده الله له في الآخرة ، مما لا يدع أي مجال للشك بأن الموت كان لديه بأبي وأمي حدثاً لا خشية منه، وإنما بخاف منه من لا ثقة له بعمله ولا برحمة ربه ، وأين ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ بل لربما تكون رغبته في القتل أكبر من رغبته في الموت طريحاً على الفراش ، وهكذا الأمر في قصة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع ابن أم مكتوم في الآيات الكريمة في بداية سورة عبس، فقد اتهمت روايات العامة، ومن تابعهم عليها متلجلجاً من مفسري الشيعة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بأنه هو من عبس وتولّى بوجهه عن ابن أم مكتوم أثناء مجيئه وبجنبه بعض رجالات قريش ، فيما نرى القرآن الكريم الذي أطلق الكلام دون تشخيصه لهوية هذا الذي عبس وتولى، يحدد في مواضع أخرى انصراف هذه الآية بعيداً عن شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، مرة بحديثه عن شؤون هي من صلب وظائف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بحيث انه لو تركها يكون مخالفاً لنبوته كمسألة التزكية والإنذار وما إلى ذلك، وثانية بوصفه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصفة صاحب الخلق العظيم والعبوس حالة منافية لذلك، وأخرى بحديث الله مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشأن مجالسة الفقراء كما في قوله عزّ وجلّ: "وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" (الانعام 52) مما يعطينا فهماً صريحاً في توجيه العبوس إلى مجالسي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لا إليه بأبي وأمي كما عمدت إليه تفاسير العامة، وهكذا بقية الآيات المماثلة.
ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: وهناك صنف آخر من الآيات تحدّث عن فعل معين من أفعال الأنبياء عليهم السلام وغيرهم بصورة موجزة من دون أن يدخل في تفاصيلة، وهو أسلوب مألوف من أساليب القصص القرآني ، وقد عكست هذه الصورة جملة من الأمور التي استغلها وضّاع الرواة والمشككون لأن يطلقوا العنان لشبهاتهم بالاعتماد على ذلك ، كما في قصة موسى وهارون عليهماالسلام في قوله تعالى: "وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (الاعراف 150) فهنا لم يفصح القرآن عن سبب أخذه لرأس أخيه إلاّ بأنه كان غاضباً، مما سمح لبعضهم أن يطلقوا لمخيلاتهم العنان بصورة جعلتهم يتصورون أن الغضب كان من جراء فعل هارون، فإن كان ذلك صحيحاً فإن الخطأ لا بد وأن يكون من أحدهما، فإن كان هارون عليه السلام مذنباً، فالذنب ذنبه وهو نبي وبالتالي لا عصمة، وإن كان الخطأ من موسى عليه السلام فقد عاقب من لا ذنب له، وهو أمر قادح بالعصمة قطعاً. وهكذا صنف آخر من الآيات تحدث عن مقطع من الحدث، وانتقل بصورة سريعة إلى حدث آخر ، كما هو حال الطبيعة الفنية التي حكمت المنهج القصصي القرآني، مما دفع إلى التوهم بوحدة ما تحدّثت عنه الآيات، لتفسر الحدثين بحدث واحد، وبالتالي فقد جرها ذلك إلى التحدث عن خلل في سلوك الأنبياء عليهم السلام، كما نلمس ذلك في الآية الكريمة التي تحدثت عن يونس عليهالسلام: "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" (الانبياء 87)، وفيها نرى ظاهر الآية وكأن مغاضبة يونس عليهالسلام كانت بسبب عدم إنزال البلاء والإلهي الذي وعد به على قومه، وبذا كانت المغاضبة عصياناً لله سبحانه وتعالى وما إلى ذلك من تفسيرات تعج بها كتب القوم الروائية، في الوقت الذي نجد فيه أن المغاضبة لا بد وأن تكون من جهتين ففيها غاضب ومغضوب منه ، وحيث لا يمكن القول بأنه عليهمالسلام كان مغاضباً لله، ولا يمكن له أن يكون مغاضباً لنفسه بدليل انه فرّ إلى سفينة مشحونة، والمغاضب لنفسه لا يهرب لسفينة ولا لغيرها، فلا يبقى إلاّ أن تكون مغاضبته مع قومه الذين هرب منهم قبل أن تحدق بهم نُذر العذاب، ومعه فإن حديثه عن ظلمه سيكون تصاغراً بين يدي المعبود اليس إلاّ.
وعن خصائص الذات المقدسة يقول الشيخ جلال الدين الصغير: النص القرآني ليس نصاً عادياً، وإنما هو نص الذات الإلهية المقدسة، ولهذا لا ينبغي أن يخرج فهمه عن فهمنا لهذه الذات بكل المزايا والخصائص التي تميّزها عنا، وحين يلحظ هذا النص وفقاً لمقتضيات شبهات القادحين بعصمة الأنبياء عليهم السلام، فإن المرء لا يملك أن يفغر الفاه عجباً من سخف العقول التي تتهم هذه الذات المقدسة بكشفها لعيوب هي في الكثير من الأحيان حتى في أشد الأقوال جرأة على الساحة المقدسة للأنبياء عليهم السلام لم تأخذ صورة العمل الخارجي الذي يترك أثره في الواقع الاجتماعي أو الذاتي، وإنما بقيت حديثاً في القلب أو أثراً يرتسم في الوجه، وأي كشف أعظم وأفدح من كشف يتم من قبل الله سبحانه وفي كتابه المرسل إلى كل الأزمان والأوطان؟ فلو أخذنا صورة الفظائع التي يروونها عن يوسف أو داود عليهما السلام والتي يقشعر البدن لمجرد ذكرها كمثال، لا ستوجب كلاً منهما التعزير ، فضلاً عن التوهين والإزراء، أتراه يحدثنا عن أحسن القصص في سورة يوسف ليقدّم لنا من بعد ذلك بطل هذه القصص الحسنة بصورة مقذعة الوصف كما تتحدث روايات القوم كما في تفاسيرهم في موضع آية: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ" (يوسف 24)، فتراه مهمّاً بالزنا يجلس من المرأة المحصن مجلس الواطىء لها بعد أن يخلع سراويله، والناسي لذكر ربه فلا يذكره إلا أن تذكّره العامة على اغوائه بذلك تبعاً لحيائها من الأصنام، والخائن للأمانة مع من أحسن وفادته، والضعيف بشخصيته الذي لا يقوى على مجابهة اغراءات امرأة؟ أترى في ذلك رسالة حياء وهو الذي أمر بالستر؟ أم رسالة عفّة وهو الذي أمر بأن لا تشيع الفاحشة؟ أم رسالة توحيد وهو الذي بعث أنبياءه لغرضها فإذا بهم ينسونها مع أول عارض من عوارض الدنيا ، وبعض هذه العوارض فيه من التفاهة الشيء الكثير حتى إنَّ الإنسان العادي قد يفوّته فما بالك بنبي؟
https://telegram.me/buratha