الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى عن السيد المسيح عليه السلام "مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ" ﴿المائدة 75﴾ ما المسيح ابن مريم عليه السلام إلا رسولٌ كمن تقدمه من الرسل، وأُمُّه قد صَدَّقت تصديقًا جازمًا علمًا وعملا وهما كغيرهما من البشر يحتاجان إلى الطعام، ولا يكون إلهًا مَن يحتاج الى الطعام ليعيش، فتأمَّل أيها الرسول حال هؤلاء الكفار، لقد وضحنا العلاماتِ الدالةَ على وحدانيتنا، وبُطلان ما يَدَّعونه في أنبياء الله، و "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ" ﴿التوبة 30﴾ لقد أشرك اليهود بالله عندما زعموا أن عزيرًا ابن الله، وأشرك النصارى بالله عندما ادَّعوا أن المسيح ابن الله، وهذا القول اختلقوه من عند أنفسهم، وهم بذلك لا يشابهون قول المشركين من قبلهم. قَاتَلَ الله المشركين جميعًا كيف يعدلون عن الحق إلى الباطل؟ و "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَـٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" ﴿التوبة 31﴾ اتخذ اليهودُ والنصارى العلماءَ والعُبَّادَ أربابًا يُشَرِّعون لهم الأحكام، فيلتزمون بها ويتركون شرائع الله، واتخذوا المسيح عيسى ابن مريم إلهًا فعبدوه، وقد أمرهم الله بعبادته وحده دون غيره، فهو الإله الحق لا إله إلا هو. تنزَّه وتقدَّس عما يفتريه أهل الشرك والضلال، و "فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ" ﴿التوبة 2﴾ فَسِيحُوا: الفاء حرف استئناف، سيح فعل، وا ضمير، فسيحوا: سيروا آمنين أيها المشركون، فسيروا أيها المشركون في الأرض مدَّة أربعة أشهر، تذهبون حيث شئتم آمنين من المؤمنين، واعلموا أنكم لن تُفْلِتوا من العقوبة، وأن الله مذل الكافرين ومورثهم العار في الدنيا، والنار في الآخرة، وهذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر، فيكمَّل له أربعة أشهر، أو مَن كان له عهد فنقضه، و "التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" ﴿التوبة 112﴾ السَّائِحُونَ" ال اداة تعريف، سائحون: اسم، السائحون: الغزاة المجاهدون. أو الصائمون، أو طلبة العلم. و أصل السائح: الذاهب في الأرض و السائح بالأرض ممتنع عن الشهوات، و "عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا" ﴿التحريم 5﴾ سائحات صفة، سائحات: مهاجرات، أو صائمات بلغة هُذيل، و السياحة في هذة الأمة الصوم.
قوله تعالى "وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ" ﴿الزخرف 63﴾ جاء التي تعطي معنى جاء فلان بالشيء، جئتكم: جئ فعل، التاء ضمير، كم ضمير، ولما جاء عيسى بني إسرائيل بالبينات الواضحات من الأدلة قال: قد جئتكم بالنبوة، ولأبيِّن لكم بعض الذي تختلفون فيه من أمور الدين، فاتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأطيعون فيما أمرتكم به من تقوى الله وطاعته. وقوله عز من قائل "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ" ﴿البقرة 87﴾ جاءكم: جاء فعل، كم ضمير، ولقد أعطينا موسى التوراة، وأتبعناه برسل من بني إسرائيل، وأعطينا عيسى ابن مريم المعجزات الواضحات، وقوَّيناه بجبريل عليه السلام، أفكلما جاءكم رسول بوحي من عند الله لا يوافق أهواءكم، استعليتم عليه، فكذَّبتم فريقًا وتقتلون فريقًا؟ وقوله جل جلاله "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" ﴿آل عمران 61﴾ فمَن جادلك أيها الرسول في المسيح عيسى ابن مريم من بعد ما جاءك من العلم في أمر عيسى عليه السلام، فقل لهم: تعالوا نُحْضِر أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نتجه إلى الله بالدعاء أن يُنزل عقوبته ولعنته على الكاذبين في قولهم، المصرِّين على عنادهم.
ولما جاءت مريم عليها السلام بعيسى عليه السلام المعجزة الإلهية من غير أب تحمله، أنكر عليها قومها ذلك. قوله تعالى: "وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا" (النساء 156) لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت، وجاءت بعيسى من ذلك الزنا حاشاها وحاشاه من ذلك، ويدل لذلك قوله تعالى بعده: "يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا" (مريم 28). قال الله تعالى "ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ" ﴿مريم 34﴾ يمترون اي يشكون. و قوله تعالى "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا" ﴿النساء 157﴾ وما قتلوه يقينا اي ما قتلوه متأكدين.
جاء في كتاب القصص القرآني للسيد محمد باقر الحكيم: العلاقة باللّه تعالى: و هي الصفات التي تتحدّث عن نوع و مستوى العلاقة بين اللّه تعالى و عيسى عليه السّلام، و هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم يتحدّث في هذا البعد عن الخصال التي تعبّر عن موقف العناية و الرحمة الإلهية بعيسى عليه السّلام في تصوير هذه العلاقة، بدل الصفات التي تعبّر عن موقف عيسى عليه السّلام من اللّه باستثناء صفة واحدة، و هي صفة العبودية. و لم تذكر هذه الصفة و الخصلة إلّا له و لنبينا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سورة النحل "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل 102) و رفعه اللّه إليه بعد الوفاة، و طهره من الكافرين، و هي من الصفات التي اختص بها اللّه تعالى رسوله عيسى عليه السّلام.
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ" (المائدة 72) وهذا كالبيان لكون النصارى لم تنفعهم النصرانية والانتساب إلى المسيح عليهالسلام عن تعلق الكفر بهم إذ أشركوا بالله ولم يؤمنوا به حق إيمانه حيث قالوا : إن الله هو المسيح بن مريم. والنصارى وإن اختلفوا في كيفية اشتمال المسيح بن مريم على جوهرة الألوهية بين قائل باشتقاق أقنوم المسيح وهو العلم من أقنوم الرب تعالى وهو الحياة، وذلك الأبوة والبنوة، وقائل بأنه تعالى صار هو المسيح على نحو الانقلاب، وقائل بأنه حل فيه كما تقدم بيان ذلك تفصيلا في الكلام على عيسى بن مريم عليه السلام في تفسير سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب. لكن الأقوال الثلاثة جميعا تقبل الانطباق على هذه الكلمة "إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ" (المائدة 72) فالظاهر أن المراد بالذين تفوهوا بهذه الكلمة جميع النصارى الغالين في المسيح عليه السلام لا خصوص القائلين منهم بالانقلاب. وتوصيف المسيح بابن مريم لا يخلو من دلالة أو إشعار بسبب كفرهم وهو نسبة الألوهية إلى إنسان ابن إنسان مخلوقين من تراب ، وأين التراب ورب الأرباب؟. قوله تعالى "وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ" (المائدة 72) (إلى آخر الآية) احتجاج على كفرهم وبطلان قولهم بقول المسيح عليه السلام نفسه، فإن قوله عليه السلام "اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ" (المائدة 72) يدل على أنه عبد مربوب مثلهم، وقوله "إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" (المائدة 72) يدل على أن من يجعل لله شريكا في ألوهيته فهو مشرك كافر محرم عليه الجنة. وفي قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام "فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ" عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية، وأنه عليه السلام باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم فهم مغفور لهم مرفوع عنهم التكاليف الإلهية ومصيرهم إلى الجنة ولا يمسون نارا كما تقدم نقل ذلك عنهم في تفسير سورة آل عمران في قصة عيسى عليهالسلام فقصة التفدية والصلب إنما سيقت لهذا الغرض. وما تحكيه الآية من قوله عليه السلام موجود في متفرقات الأبواب من الأناجيل كالأمر بالتوحيد، وإبطال عبادة المشرك، والحكم بخلود الظالمين في النار.
https://telegram.me/buratha