* د. جميل ظاهري
عاش العالم الاسلامي خاصة تلك المناطق التي كان يقطنها أهل بيت الرسالة والوحي والتنزيل وشيعتهم في شبه الجزيرة العربية والعراق بعد فاجعة كربلاء الدموية، جو من الرعب والارهاب والقمع والتكفير الأموي الدموي، وضعفت الحركة المعادية لسلطة أبناء اللقطاء أبو سفيان وهند آكلة الأكباد وأُصيبت بنوع من الفتور والذهول واختل وتلاشى تنظيمها لما شهدته من تصفيات جسدية طالت حتى الأطفال، حتى قال عنها الإمام علي بن الحسين بن علي أمير المؤمنين عليهم السلام: "ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا" - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (4: 140). ولاحظ الغارات للثقفي (ص 573) وبحار الأنوار (46 / 143)
الحالة ذاتها تتكرر اليوم في عالمنا الاسلامي من أقصاه الى أقصاه حيث الارهاب التكفيري الأموي يسود بظلاله الدموي ربوع الأمة ويزعزع أمنها واستقرارها ويفتك بصغيرها وكبيرها دون أدنى رحمة، يمزق الأجساد ويأكل الأكباد ويفخخ ويفجر ويسرق وينهب ويستبيح الأعراض وينتهك المقدسات دون شفقة، معيدين للذاكرة ما فعلته أمهم هند بقلب حمزة سيد الشهداء في معركة أحد، وما فعله حفيدها شارب الخمر قاتل النفس المحرمة الفاسق الفاجر يزيد بن معاوية؛ مصرين على عودة البشرية الى عهد الجاهلية وإنكار دين الرحمة والرأفة والمودة والمحبة حتى دفع بشعوب العالم الى رفع شعار "الاسلاموفوبيا" رهاباً من رسالة التسامح والتعايش التي أخذ الأحرار يميلون لها ويتخذونها ديناً لهم فأوجس خيفةُ في قلوب المنافقين والفاسقين من الصهاينة والعربان فدفعوا حاخاماتهم ودعاة عروشهم الى توحيد الكلمة والإفتاء بتمزيق الأمة .
عاصر الإمام علي بن الحسين عليهما السلام الذي نعيش هذه الأيام ذكرى مولده المبارك ستة من الحكام الأمويين الظلمة المتفرعنين الوقحين، مسودة صفحات تاريخهم بالقتل والذبح والتحريف والتزييف والقمع والتنكيل بأهل بيت العصمة والطهارة الذين شرفهم الله على سائر البشرية جمعاء بقوله { وأنصارهم ومحبيهم وكل داعية بالعودة نحو القرأن والسنة وهم: يزيد بن معاوية ـ (61ـ 64)، وعبد اللّه بن الزبير ـ (61ـ 73)، ومعاوية بن يزيد (بضعة شهور من عام 64)، ومروان بن الحكم ـ (تسعة أشهر من عام 65)، وعبد الملك بن مروان ـ (65 ـ 86) والوليد بن عبد الملك ـ (86 ـ 96)، الذين عقدوا العزم على التضليل على الدين المحمدي الأصيل والثورة الحسينية الخالدة ثورة انتصار الدم على السيف، فكان الإمام السجاد صلوات الله عليه لهم بالمرصاد مستخدماً سلاح الدعاء والخطابة لفضح انجراف السلطة والأمة والتصدي لهم بكل الوسائل السلمية فأضحى أمثولة للنضال السلمي ضد الأنظمة الديكتاتورية يتمسك به الكثير من المسلمين الأحرار منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا وعلى سبيل المثال حركة شعب البحرين الأبية السلمية الصامدة رغم كل العنف والقمع الدموي الذي يستخدمه نظام التمييز الطائفي الخليفي ضد شعب مظلوم أعزل لا يطالب سوى بالعدالة والحرية والمساواة .
ولد الإمام علي بن الحسين سنة ثمانية وثلاثين للهجرة بالمدينة المنورة، وقضى طفولته هناك، وأدرك سنتين من خلافة جدّه الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وعاصر بعدها فترة عشرة أعوام من إمامة عمّه الإمام الحسن المجتبى، ثم مع أبيه الإمام الحسين لمدّة عشر سنوات ايضاً وهو يجاهد معاوية الذي كان في قمة التزييف والتزوير والإنحراف والبذخ والتبذير والإرشاء، وحضر فاجعة الطف التي ذهب ضحيتها العشرات من أهل بيته الميامين وأنصارهم الكرام مقطعي الرؤوس والأجساد ولم ينجو منه حتى الطفل الرضيع، ليحمل لواء نشر الثورة الحسينية الثائرة ولكن في أسلوب النضال السلبي السلمي جاعلناً من دم أبيه الطاهر الأمام الحسين ريحانة رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، منتصراً على قوة سيف ظلم وطغيان وفرعنة بنو أمية الطلقاء ويضحى مناراً للأحرار والشرفاء والنجباء والمجاهدين المدافعين عن شرف الأمة ووحدتها متصدين للارهاب التكفيري الوهابي السلفي الذي يفتك بالمسلمين الأبرياء في منطقتنا الاسلامية من العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وأفغانستان وباكستان حتى مصر وليبيا والجزائر ونيجيريا، دون مبالاة منتهجين مدرسة زين العابدين عليه السلام بقوله: "القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة" .
تمكن الامام السجاد رغم أنه كان وحيداً وأنصاره لايتجاوزون عدد أصابع اليدين من التصدي بسلاح الدعاء في الصحيفة السجادية والمناجاة المختلفة (زبور آل محمد) وعلمه وفكره وإيمانه وقوته الالهية ورسالته السماوية التي كان يحملها على عاتقه من التصدي لانحراف الأمة وظلم وطغيان وجبروت وفرعنة حكام وسلاطين بنو أمية، وعلماء الزور والتزييف الذين أرادوا بالأمة العودة الى الجاهلية قبل الاسلام،.. فكانت منه سياسة المقاطعة والمعارضة لحُكّام بني أميّة وعمّالهم من الثوابت السياسيّة لعلي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، ولا نعرف في حياته وسيرته أنه عدل عن هذه السياسة في وقت من الأوقات، حتى في الأيّام الأوائل من عودته من الشام إلى المدينة، حيث كان يسعى للتغيّب عن مجتمع المدينة لم يتخلّ عن هذه السياسة؛ وعدم دعم الإمام السجاد الثورات المسلحة ضد سلاطين الأمويين لها مبرراتها خاصة وأنه كان يخاف على ما تبقى من أهل بيت النبوة والإمامة وشيعتهم وأنصارهم من بطش الحكام المجرمين وما يوم الطف ببعيد، لهذا سلك نهج التصدّي والمعارضة والمقاطعة لحكومة بني أمية سلبياً سلمياً.
الانحراف التي عاشته الأمة آنذاك هو ذات الانحراف الذي تمسك به الأحفاد من الأسلاف ونشهده يعصف ببلاد المسلمين وعبدة الدرهم والدينار يفتون بما لذ وطاب لأسيادهم المجرمين في قتل وذبح الانسان الحر والمقاوم والصامد والداعي الى عبودية الله لا عبودية الأوثان الجديدة، وتدمير البلاد، وتمزيق العباد، وحرق الأخضر واليابسة، ونهب ثروات الأمة، وسلب النساء وتدنيس المقدسات، والقتل على الهوية الذي لا يستثني حتى الأطفال، وإيقاع الفتنة الطائفية بفتاوى تكفيرية وأموال خليجية ومخططات صهيونية؛ سعياً للتضليل على نهج أئمة الهدى والرسالة السماوية الخالدة، لكن مشيئة الباري تعالى تشدد على إعتلاء كلمة الحق ودحر الظالمين والمشركين والمنافقين على يد المؤمنين وهو وعد صدق جاء في كتابه الحكيم "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ- سورة التوبة الآية 32و33.. وأن وعد الله لقريب "إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ .." - سورة هود الآية 81.
https://telegram.me/buratha