الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم: إن القسم المكي لم يتناول أيضا الأدلة والبراهين على العقيدة وأصولها، على خلاف القسم المدني، وهذا تعبير آخر أيضا عن تأثر القرآن بالظروف الاجتماعية والبيئية، إذ عجزت الظاهرة القرآنية بنظر هؤلاء عن تناول هذا الجانب الذي يدل على عمق النظر في الحقائق الكونية، عندما كان يعيش محمد صلى الله عليه وآله في مكة مجتمع الأميين، بينما ارتفع مستوى القرآن في هذا الجانب عندما أخذ محمد صلى الله عليه وآله يعيش إلى جانب أهل الكتاب في المدينة، وذلك نتيجة لتأثره بهم لانهم أصحاب فكر وفلسفة ومعرفة بالديانات السماوية، ولتطور الظاهرة القرآنية نفسها أيضا. وتناقش هذه الشبهة من وجهين: الأول: أن القسم المكي لم يخل من الأدلة والبراهين بل تناولها في كثير من سوره، والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة وفي مجالات شتى فمن نماذج وموارد الاستدلال على التوحيد قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون * لا يسأل عما يفعل وهم يسألون * أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون" (الانبياء 22-24). وهكذا تتناول الأدلة جوانب أخرى من العقيدة الاسلامية والمفاهيم العامة: بل إن القرآن الكريم تناول أكثر قصص الأنبياء والمناقشات والأدلة التي دارت بينهم وبين أقوامهم في القسم المكي من القرآن.
جاء في كتاب القصص القرآنى للسيد محمد باقر الحكيم: السجود لآدم: في البداية يواجهنا السؤال عن الأمر الإلهي للملائكة في السجود لآدم، إذ إنّه في الشريعة المقدسة يحرم السجود لغير اللّه تعالى، فكيف صحّ أن يطلب من الملائكة السجود لآدم؟ و ما هو المقصود من هذا السجود؟ و هذا السؤال ينطلق من فكرة، و هي: أنّ السجود بحدّ ذاته عبادة، و العبادة لغير اللّه شرك و حرام؛ إذ تقسم الافعال العبادية إلى قسمين: أحدهما: الأفعال التي تتقوم عباديتها بالنية و قصد القربة كالإنفاق (الزكاة و الخمس)، أو الطواف بالبيت الحرام، أو القتال، أو غير ذلك، فإنّ هذه الأفعال إذا توفرت فيها نية القربة و قصد رضا اللّه- تعالى تكون عبادة للّه تعالى، و بدون ذلك لا تكون عبادة، و من ثمّ فهي تتبع نيتها في تشخيص طبيعتها. و الآخر: الأفعال التي تكون بذاتها عبادة، و يذكر السجود منها، لأنّه عبادة بذاته، و لذا يحرم السجود لغير اللّه؛ لأنّه يكون بذاته عبادة لغير اللّه. و لكن هذا التصور غير صحيح: فإنّ السجود شأنه شأن الأفعال الاخرى التي تتقوم عباديتها بالقصد و النية، و لذا فقد يكون السجود سخرية و استهزاء، و قد يكون لمجرد التعظيم، و قد يكون عبادة إذا كان بنيتها. و إنّما كان السجود لغير اللّه حراما؛ لأنّه يستخدم عادة في العبادة، فاريد للإنسان المسلم أن يتنزه عمّا يوهم العبادة لغير اللّه تعالى. و أمّا إذا كان السجود للتعظيم و بأمر من اللّه تعالى، فلا يكون حراما، بل يكون واجبا. و لكن يبقى السؤال: أنّ هذا السجود ما ذا كان يعني؟ فقد ذكر بعض المفسرين انطلاقا من فكرة أنّ هذا الحديث لا يراد منه إلّا التربية و التمثيل، و ليس المصاديق المادية لمفرداته و معانيه أنّ السجود المطلوب إنّما هو: خضوع هذه القوى المتمثلة بالملائكة للإنسان؛ لأنّ اللّه تعالى أودع في شخصية هذا الإنسان و طبيعته من المواهب ما تخضع له هذه القوى الغيبية. كما أنّه يمكن أن يكون هذا السجود سجودا حقيقيا بالشكل الذي يتناسب مع الملائكة، و يكون طلب السجود منهم لآدم من أجل أن يعبّروا بهذا السجود عن خضوعهم أو تقديسهم لهذا المخلوق الإلهي المتميز، بما أودع اللّه فيه من روحه، و وهبه العلم و الإرادة و القدرة على التكامل و الصعود إلى الدرجات الكمالية العالية. و لعلّ هذا المعنى الثاني هو الظاهر من مجموعة الصور و الآيات القرآنية التي تحدّثت عن هذا الموضوع، إذ نلاحظ أنّ امتناع إبليس عن السجود إنّما كان بسبب الاستكبار لتفضيل هذا المخلوق. إبليس من الملائكة أم لا؟ و هناك سؤال آخر عن حقيقة إبليس إنّه من الملائكة أو الجن؟ حيث ورد في القرآن الكريم وصفه بكلا هذين العنوانين: فاذا كان من الملائكة فكيف يعصي اللّه تعالى، و قد وصف اللّه تعالى الملائكة بأنهم: "عِبادٌ مُكْرَمُونَ" (الانبياء 26).
جاء في علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم: ما ذكره الشيخ محمد عبده أيضا: ان الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم، وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وهناك من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه، بحيث يفهمه الجميع على السواء، وانما يفهمه الخاصة منهم عن طريق الكناية والتعريض، ويؤمر العامة بتقويض الامر فيه إلى الله تعالى عند حد المحكم، فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده. وقد ناقشه العلامة الطباطبائي: بان الكتاب الكريم كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين هذه المتشابهات عند الرجوع إليها، ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات من المعاني ما هو أزيد مما تكشف عن المحكمات، وعند ذلك يبقى سؤالنا: ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب وأي حاجة إليها مع وجود المحكمات؟ على حاله. والسبب في هذا الاشتباه الذي وقع فيه الشيخ محمد عبده: أنه اخذ المعاني نوعين متباينين: الأول: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات. الثاني: معان لا يدرك حقيقتها الا الخاصة ولا يتلقاها غيرهم وهي المعارف الإلهية والحكم الدقيقة، فكان من نتيجته أن من المتشابهات ما لا ترجع معانيها إلى المحكمات، وقد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضا وغير ذلك. ويمكن ان نلاحظ على المناقشة: أنه ما هو الشئ الذي يمنع من وجود هذين القسمين من المعاني؟ إذا كان المانع من ذلك هو ما يشير إليه العلامة الطباطبائي من امومة المحكمات للمتشابهات. فقد عرفنا أن هذه الأمومة لا تعني أكثر من وضع حدود خاصة معينة للمتشابهات تمنع عن الزيغ فيها، وتسقط من الحساب جميع الصور والتجسيدات غير المنسجمة مع روح القرآن. وهذا لا يعني تحديد الصورة الحقيقية للمعنى المتشابه، وتعيينها في مصداق خاص حتى تختفي الفائدة منه. وإذا عرفنا دور المحكم تجاه المتشابه أمكننا ان نتصور بسهولة: أن بعض المعاني لا يدركها على مستوى المصداق الا الراسخون في العلم دون العامة، خصوصا المعاني التي ترتبط ببعض المعلومات الكونية الطبيعية، كجعل الماء مصدرا للحياة: "وجعلنا من الماء كل شئ حي" (الانبياء 30) فان كل هذه المعلومات حين تنكشف لدى العلماء تكون من المعلومات التي أشار إليها القرآن الكريم، ويعرفها الخاصة من الناس دون غيرهم.
https://telegram.me/buratha